قد أقذف العيس في ليل كأنّ به |
وشيا من النّور أو روضا من العشب |
وقد يمتنع هذا القلب في طرفي التشبيه وذلك أن يكون بين الشيئين تفاوت شديد في الوصف الذي لأجله نشبّه ثم قصدنا أن نلحق الناقص منهما بالزائد مبالغة ودلالة على أنّه يفضل أمثاله فيه. وقد فسّر عبد القاهر ذلك بقوله : «بيان هذا أنّ ههنا أشياء هي أصول في شدة السواد كخافية الغراب والقار ونحو ذلك ، فاذا شبهت شيئا بها كان طلب العكس في ذاك عكسا لما يوجبه العقل ونقضا للعادة ؛ لأنّ الواجب أن يثبت المشكوك فيه بالقياس على المعروف لا أن يتكلف في المعروف تعريفه بقياس على المجهول ، وما ليس بموجود على الحقيقة فأنت إذا قلت في شيء «هو كخافية الغراب» فقد أردت أن تثبت له سوادا زائدا على ما يعهد في جنسه وأن تصحح زيادة هي مجهولة له ، واذا لم يكن ههنا ما يزيد على خافية الغراب في السواد فليت شعري ما الذي تريد من قياسه على غيره. ولهذا المعنى ضعف بيت البحتري :
على باب قنّسرين والليل لاطخ |
جوانبه من ظلمة بمداد |
وذاك أنّ المداد ليس من الأشياء التي مزيد عليها في السواد ، كيف وربّ مداد فاقد اللون ، والليل والسواد بشدته أحق وأحرى أن يكون مثلا. ألا ترى الى ابن الرومي حيث قال :
حبر أبي حفص لعاب الليل |
يسيل للإخوان أيّ سيل |
فبالغ في وصف الحبر بالسواد حين شبهه بالليل ، وكأنّ البحتري نظر الى قول العامة في الشيء الأسود : «هو كالنقش» ثم تركه للقافية الى المداد» (١).
ولخّص قاعدة قلب التشبيه بقوله : «وجملة القول أنّه متى لم يقصد ضرب من المبالغة في إثبات الصفة للشيء والقصد الى إيهام في الناقص أنّه كالزائد واقتصر على الجمع بين الشيئين في مطلق الصورة والشكل واللون أو جمع وصفين على وجه يوجد في الفرع على حدّه أو قريب منه في الأصل فإنّ العكس يستقيم في التشبيه ومتى أريد شيء من ذلك لم يستقم» (٢).
ولا يأتي القلب في التمثيل أو التشبيه التمثيلي بهذه السهولة بل يحتاج الى تأويل وتخيّل يخرج عن الظاهر خروجا بيّنا أو يبعد عنه بعدا ظاهرا ، فهو يطاوع في التشبيه مطاوعة وينقاد القياس فيه انقيادا لا تعسف فيه ، ولا يطاوع تلك المطاوعة في التمثيل. ومثال قلب التمثيل قول القاضي التنوخي :
وكأنّ النجوم بين دجاها |
سنن لاح بينهنّ ابتداع |
وقول أبي طالب الرقي :
ولقد ذكرتك والظّلام كأنّه |
يوم النوى وفؤاد من لم يعشق |
وقول ابن بابك :
وأرض كأخلاق الكريم قطعتها |
وقد كحّل الليل السماك فأبصرا |
وهذه الصور تحتاج الى فضل تأمل ودقة تأول وبعد نظر ، وهي من تشبيه المحسوس بالمعقول الذي أنكره بعضهم وأكثر منه الشعراء في العصر العباسي أو هي ـ كما قال السجلماسي ـ من «الجري على غير المجرى الطبيعي» (٣) في التشبيه.
تشبيه المعنى بالصّورة :
هذا النوع من أحوال التشبيه عند ابن الاثير الحلبي قال : «إما تشبيه معنى بصورة كقوله تعالى : (وَالَّذِينَ كَفَرُوا أَعْمالُهُمْ كَسَرابٍ بِقِيعَةٍ يَحْسَبُهُ الظَّمْآنُ
__________________
(١) أسرار البلاغة ص ٢٠٢.
(٢) أسرار البلاغة ص ٢٠٤.
(٣) المنزع البديع ص ٢٢٧.