الشعر وطرف الكلام وله في النفس حلاوة وحسن موقع بخلاف ماللغلو والاغراق. وفائدته الدلالة على قرب الشبهين حتى لا يفرق بينهما ولا يميز أحدهما من الآخر» (١). ومعظم الأمثلة التي ذكرها من تجاهل العارف كقول زهير :
وما أدري وسوف إخال أدري |
أقوم آل حصن أم نساء؟ |
ولكنّ المصري قال : «هو أن يأتي المتكلم في كلامه بلفظة تشكك المخاطب هل هي حشو أو أصلية لا غنى الكلام عنها مثل قوله تعالى : (يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذا تَدايَنْتُمْ بِدَيْنٍ)(٢). فان لفظة «بدين» تشكك السامع هل هي فضلة ، إذ لفظة (تَدايَنْتُمْ) تغني عنها ، والناظر في علم البيان يعلم أنّها أصلية لأنّ لفظة الدين لها محامل وتقول : «داينت فلانا الموّدة يعني جازيته» ومنه «كما تدين تدان». ومن ذلك قول رؤبة :
داينت أروى والدّيون تقضى |
فمطلت بعضا وأدّت بعضا |
وأمثال هذا. وكل هذا هو الدّين المجازي الذي لا يكتب ولا يشهد عليه ، ولما كان المراد في الآية الكريمة تبيين الدين المالي الذي يكتب ويشهد عليه وفيه ، وتبيين الأحكام المعلقة به وما ينبغي أن يعمل فيه أوجبت البلاغة أن تقول : (بِدَيْنٍ) معناه يكتب ويشهد ليقول : (فَاكْتُبُوهُ) والله أعلم» (٣). وذهب الى مثل ذلك الحلبي والنويري وابن الاثير الحلبي والسبكي (٤).
ومن التشكيك ضرب آخر ، وهو أن يأتي المتكلم بجمل من المعاني في كلامه كل جملة معطوفة على الأخرى بـ «أو» التي هي موضوعة للتشكيك لا التي للتخيير ، كقول البحتري :
كأنما تبسم عن لؤلؤ |
منضّد أو برد أو أقاح |
قال المصري : «ومن التشكيك نوع التبس على بعض المؤلفين حتى أدخله في باب تجاهل العارف ، وهو أن يرى المتكلم شيئا شبيها بشيء فيشكك نفسه فيه لقصد تقريب المشبه من المشبه به ثم يعود عن المجاز الى الحقيقة فيزيل ذلك التشكيك فان لم يعد الى الحقيقة فهو تجاهل العارف ، وإن عاد فهو التشكيك المحض» (٥) ، كقول سلم :
تبدّت فقلت الشمس عند طلوعها |
بجلد غنيّ اللون من أثر الورس |
|
فلما كررت الطّرف قلت لصاحبي |
على مرية ما ههنا مطلع الشمس |
ثم قال : «فانظر كيف رجع الى التحقيق بعد التشكيك ، وقد خفي هذا الفرق عن ابن رشيق وغيره حتى أدخلوه في باب تجاهل العارف ، وهذا خلاف قول أبي تمام :
فو الله ما أدري أأحلام نائم |
ألمّت بنا أم كان في الركب يوشع |
فان سلما رجع عن التشكيك وأبو تمام لو يرجع ، فكان بيت سلم من التشكيك المحض وبيت حبيب من تجاهل العارف ، وقد ظهر الفرق بين البابين».
ولذلك عدّ المصري مبتدعا لهذا الفن لأنّ ما ذكره ابن رشيق من باب تجاهل العارف.
التّشهير :
الشهرة وضوح الأمر ، وقد شهره يشهره شهرا
__________________
(١) العمدة ج ٢ ص ٦٦ ، وينظر المنزع البديع ص ٢٧٦ ، الروض المريع ص ١٣١ ، كفاية الطالب ص ١٧٢.
(٢) البقرة ٢٨٢.
(٣) تحرير التحبير ص ٥٦٣ ، بديع القرآن ص ٢٧٩.
(٤) حسن التّوسّل ص ٣٠٤ ، نهاية الأرب ج ٧ ص ١٦٩ ، جوهر الكنز ص ٢٠٤ ، عروس الأفراح ج ٤ ص ٤٧٠ ، وقال ابن الاثير انه التجاهل (ينظر كفاية الطالب ص ١٧٢).
(٥) تحرير ص ٥٦٤.