وقع المتنبي في استكراه اللفظ وتعقيد المعنى ، قال الثعالبي : «وهو أحد مراكبه الخشنة التي ينسخها ويأخذ عليها في الطرق الوعرة فيضل ويضل ويتعب ويتعب ولا ينجح» (١).
واهتم ابن جني بهذه المسألة وذكر أمثلة كثيرة للتعقيد ، وبيّن أنّه من آثار الإخلال بقواعد النحو وأصوله ، وأنّه متعمد لاظهار قوة الطبع (٢) ، وقال عبد القاهر إنّ ذلك بسبب فساد النظم وسوء التأليف (٣).
وأدخل السّكّاكي التعقيد في بحث الفصاحة وقال إنها قسمان : قسم راجع الى المعنى وهو خلوص الكلام عن التعقيد ، وفسّره بقوله : «والمراد بتعقيد الكلام هو أن يعثر صاحبه فكرك في متصرفه ويشيك طريقك الى المعنى ويوعر مذهبك نحوه حتى يقسم فكرك ويشعب ظنك الى أن لا تدري من أين تتوصل وبأي طريق معناه يتحصل كقول الفرزدق :
وما مثله في الناس إلا مملّكا |
أبو أمه حيّ أبوه يقاربه |
وكقول أبي تمام :
ثانيه في كبد السّماء ولم يكن |
كاثنين ثان إذهما في الغار |
وغير المعقّد هو أن يفتح صاحبه لفكرتك الطريق المستوي ويمهّده وإن كان في معاطف نصب عليه المنار وأوقد الأنوار حتى تسلكه سلوك المتبين لوجهته وتقطعه قطع الواثق بالنجح في طيته» (٤). وتبعه في ذلك القزويني الذي عرّف التعقيد بقوله : «هو أن لا يكون الكلام ظاهر الدّلالة على المراد به» (٥). وله سببان :
أحدهما : ما يرجع إلى اللفظ وهو أن يختل النظم ولا يدري السامع كيف يتوصل منه الى معناه كقول الفرزدق. والكلام الخالي من التعقيد اللفظي ما سلم نظمه من الخلل فلم يكن فيه ما يخالف الأصل من تقديم أو تأخير أو إضمار أو غير ذلك إلا وقد قامت عليه قرينة لفظية أو معنوية.
والثاني : ما يرجع الى المعنى وهو أن لا يكون انتقال الذهن من المعنى الأول الى المعنى الثاني الذي هو لازمه والمراد به ظاهرا كقول العباس بن الأحنف :
سأطلب بعد الدار عنكم لتقربوا |
وتسكب عيناي الدموع لتجمدا |
كنّى بسكب الدموع عما يوجبه الفراق من الحزن وأصاب ، لأنّ من شأن البكاء أن يكون كناية عنه كقولهم : «أبكاني وأضحكني» أي : ساءني وسرني ، كما قال الحماسي :
أبكاني الدّهر ويا ربّما |
أضحكني الدّهر بما يرضي |
ثم طرد ذلك نقيضه فاراد أن يكنّي عما يوجبه دوام التلاقي من السرور بالجمود لظنه أنّ الجمود خلو العين من البكاء مطلقا من غير اعتبار شيء آخر ، وأخطأ ؛ لأنّ الجمود خلو العين من البكاء في حال إرادة البكاء منها فلا يكون كناية عن المسرّة وإنّما يكون كناية عن البخل. فالكلام الخالي من التعقيد ما كان الانتقال من معناه الأول الى معناه الثاني الذي هو المراد به ظاهرا حتى يخيل الى السامع أنّه فهمه من حاقّ اللفظ.
وسار المتأخّرون على مذهب السكاكي والقزويني ، ودرسوا التعقيد في مبحث الفصاحة الذي صدّروا به دراساتهم البلاغية (٦).
التّعليق :
علق بالشيء علقا وعلقه : نشب فيه ، والتعليق من
__________________
(١) يتيمة الدهر ج ١ ص ١٦٩.
(٢) الخصائص ج ١ ص ٣٢٩ ، ج ٢ ص ٣٩٢.
(٣) دلائل الاعجاز ص ٦٥.
(٤) مفتاح العلوم ص ١٩٦.
(٥) الايضاح ص ٥ ، التخليص ص ٢٧.
(٦) شروح التلخيص ج ١ ص ١٢ ، المطول ص ١٠٢ ، الأطول ج ١ ص ٢٢ وما بعدها.