فان استحسان إساءة الواشي ممكن لكن لما خالف الناس فيه عقّبه بما ذكر. أو غير ممكنة كقول الشاعر :
لو لم تكن نية الجوزاء خدمته |
لما رأيت عليها عقد منتطق |
وألحق به ما بني على الشك كقول أبي تمام :
ربا شفعت ريح الصّبا لرياضها |
الى المزن حتى جادها وهو هامع |
|
كأنّ السّحاب الغرّغّيبن تحتها |
حبيبا فما ترقى لهنّ مدامع |
وذهب الى ذلك القزويني في التعريف والتقسيم وإلحاق ما بني على الشك به (١) ، وتبعه شراح تلخيصه والسيوطي والمدني (٢).
وعقد بعض البلاغيين فصلا باسم «التعليل» ، وقد قال المصري : «هو أن يريد المتكلم ذكر حكم واقع أو متوقع فيقدم قبل ذكره علة وقوعه لكون رتبة العلة أن تقدم على المعلول» (٣) ، كقوله تعالى : (لَوْ لا كِتابٌ مِنَ اللهِ سَبَقَ لَمَسَّكُمْ فِيما أَخَذْتُمْ عَذابٌ عَظِيمٌ)(٤) ، فسبق الكتاب من الله علة في النجاة من العذاب. ومنه قول البحتري :
ولو لم تكن ساخطا لم أكن |
أذمّ الزمان وأشكو الخطوبا |
فوجود سخط الممدوح هو العلة في شكوى الشاعر الزمان.
ونقل ابن الأثير الحلبي تعريف المصري والآية الكريمة (٥) ، وقال ابن مالك : «التعليل أن تقصد الى حكم فتراه مستبعدا لكونه قريبا او عجيبا أو لطيفا أو نحو ذلك فتأتي على سبيل التطرف بصفة مناسبة للتعليل فتدعي كونها علة للحكم لتوهم تحقيقه ، فان اثبات الحكم بذكر علته أروج في العقل من إثباته بمجرد دعواه» (٦).
وذكر العلوي تعريف ابن مالك وقسّمه الى نوعين (٧) :
الأوّل : أن يأتي التعليل صريحا إما باللام كقول ابن رشيق يعلل قوله ـ عليهالسلام ـ : «جعلت لي الأرض مسجدا وطهورا» فقال في معنى ذلك :
سألت الأرض لم جعلت مصلّى |
ولم كانت لنا طهرا وطيبا |
|
فقالت غير ناطقة لأنّي |
حويت لكلّ إنسان حبيبا |
ولقد أحسن في الاستخراج وألطف في التعليل ، فلأجل ما قاله كان ذلك علة في كونها طهورا ومسجدا.
الثاني : أن لا يكون التعليل صريحا في اللفظ وإنّما يؤخذ من جهة السياق والنظم والمعنى كقول بعض الشعراء ، ولعله مسلم بن الوليد :
يا واشيا حسنت منا اساءته |
نجّى حذارك إنساني من الغرق |
فلقد أبدع فيما قاله وأراد أنّ الواشي مذموم لا محالة لما يفعله من القبيح لكنّ العلة في حسن إساءته وهو أنّه يخاف على محبوبته من وشايته فامتنع دمع عينه من أجل الخوف فسلم إنسان عينه من أن يغرق بدموعه لما كان خائفا مذعورا من الوشاية ، فلا وجه لتعليل حسن الوشاة إلا هذا.
وقال الزركشي إنّ ذكر الشيء معلّلا أبلغ من ذكره
__________________
(١) الايضاح ص ٣٦٧ ، التلخيص ص ٣٧٥.
(٢) شروح التلخيص ج ٤ ص ٣٧٣ ، المطول ص ٤٣٦ ، الاطول ج ٢ ص ٢١٠ ، شرح عقود الجمان ص ١٢٥ ، أنوار الربيع ج ٦ ص ١٣٦ ، التبيان في البيان ص ٢٦٠ ، شرح الكافية ص ٢٨٣.
(٣) تحرير التحبير ص ٣٠٩ ، بديع القرآن ص ١٠٩.
(٤) الانفال ٦٨.
(٥) جوهر الكنز ص ٢٣٩.
(٦) المصباح ص ١١٠.
(٧) الطراز ج ٣ ص ١٣٨.