التّفريق والجمع :
ابتدع المصري فنا سماه «التفريق والجمع» وقال : «هو أن يفرق المتكلم بين كلامين مرتبطين متلاحمين بكلام يتلو به الأول من كلامه بوهم السامع أنّه غير مرتبط ليفيد بذلك معنى لا يفيده الكلام لو جاء على مقتضى وضع النظم وترتيبه ثم يعود فيجمع ما تفرّق من الكلام بما كان يجب أن يقدّم لتأهيله لنفع الاول وملاءمته له وارتباطه به وكونه في الظاهر لا يصلح أن يجاوره غيره» (١). كقوله تعالى : (وَلَقَدْ أَرْسَلْنا إِلى أُمَمٍ مِنْ قَبْلِكَ فَأَخَذْناهُمْ بِالْبَأْساءِ وَالضَّرَّاءِ لَعَلَّهُمْ يَتَضَرَّعُونَ. فَلَوْ لا إِذْ جاءَهُمْ بَأْسُنا تَضَرَّعُوا وَلكِنْ قَسَتْ قُلُوبُهُمْ وَزَيَّنَ لَهُمُ الشَّيْطانُ ما كانُوا يَعْمَلُونَ. فَلَمَّا نَسُوا ما ذُكِّرُوا بِهِ)(٢). ومقتضى حسن الجواب في النظم أن يقول ههنا : أخذناهم بغتة فلم يقل ذلك وقال : (فَتَحْنا عَلَيْهِمْ أَبْوابَ كُلِّ شَيْءٍ) و (حَتَّى إِذا فَرِحُوا بِما أُوتُوا أَخَذْناهُمْ بَغْتَةً) فأوهم ظاهر النظم أنّ قوله : (فَتَحْنا عَلَيْهِمْ أَبْوابَ كُلِّ شَيْءٍ) بعد قوله : (فَلَمَّا نَسُوا ما ذُكِّرُوا بِهِ) غير ملائم وأنّ الأليق أن يقال : (أَخَذْناهُمْ بَغْتَةً) ، ولو جاء النظم على توهم السامع لحصل الاخلال بما أفاده الفصل من المعاني لأنّ الإخبار بفتح أبواب كل شيء عقيب معاملتهم بما يبطل أعذارهم وينبئهم بأمر معاصيهم ويسلكهم في خير الكتب المنزلة من الله المتضمنة الوعيد بأخذهم من وسط ما استدرجهم به من النعم لتكون المحبة أشد وألم الأخذ أعظم والعذاب أشقّ. ثم قال بعد الاخبار بفتح أبواب النعم العميمة «أخذناهم» فاجتمع ما تفرق من الكلام وانتظم ما انفصم من ذلك النظام ، وهذا سرّ من اسرار البلاغة.
التّفسير :
التفسير هو البيان والكشف ، وقيل هو مقلوب «السفر» يقال : أسفر الصباح : إذا أضاء (٣).
والتفسير هو التصريح بعد الابهام وقد تقدم ، وسمّاه ابن مالك وآخرون «التبيين» (٤). وقد تقدم أيضا. وأدخله السجلماسي في جنس التوضيح (٥).
تفسير الإجمال والتّفصيل :
ذكره القرطاجني وذكر له بعض قولهم :
أذكى وأخمد للعداوة والقرى |
نارين : نار وغى ونار زناد (٦) |
تفسير الإيضاح :
ذكره القرطاجني وقال : «هو إرداف معنى فيه إبهام ما بمعنى مماثل له إلا أنّه أوضح منه» (٧) ، كقول المتنبي :
ذكيّ تظنيه طليعة عينه |
يرى قلبه في يومه ما ترى غدا |
التّفسير بعد الإبهام :
قال ابن الأثير : «إنّ هذا النوع لا يعمد الى استعماله إلا لضرب من المبالغة فاذا جيء به في كلام فانما يفعل ذلك لتضخيم أمر المبهم واعظامه لأنّه هو الذي يطرق السمع أولا فيذهب بالسامع كل مذهب» (٨). كقوله تعالى : (وَقَضَيْنا إِلَيْهِ ذلِكَ الْأَمْرَ أَنَّ دابِرَ هؤُلاءِ مَقْطُوعٌ مُصْبِحِينَ)(٩) ففسر الأمر بقوله : (أَنَّ دابِرَ هؤُلاءِ مَقْطُوعٌ) وفي إبهامه أولا وتفسيره بعد ذلك تفخيم للأمر وتعظيم لشأنه.
__________________
(١) بديع القرآن ص ٣١٣.
(٢) الأنعام ٤٢ ـ ٤٤.
(٣) أنوار الربيع ج ٦ ص ١٢٣.
(٤) أنوار الربيع ج ٦ ص ١٢٣.
(٥) المنزع البديع ص ٤٢٢ ، وينظر الروض المريع ص ١٣٧ ، كفاية الطالب ص ١٨٢ ، نفحات ص ٢٨٦ ، شرح الكافية ص ٢٨١.
(٦) منهاج البلغاء ص ٥٨.
(٧) منهاج البلغاء ص ٥٧.
(٨) المثل السائر ج ٢ ص ٢٧.
(٩) الحجر ٦٦.