المدح والغزل وغير ذلك من الفنون والاغراض كل فن في جملة من الكلام منفصلة عن أختها مع تساوي الجملة في الوزنية ويكون بالجملة الطويلة أو المتوسطة او القصيرة وأحسنها وأبلغها وأصعبها مسلكا القصار» (١). وهذا كلام المصري نفسه ، وذكر المدني مثل ذلك وأضاف أمثلة أخرى (٢).
التّقديم والتّأخير :
التقديم من «قدّم» أي وضعه أمام غيره ، والتأخير نقيض ذلك (٣). قال الزركشي عن التقديم والتأخير : «هو أحد أساليب البلاغة ، فانهم أتوا به دلالة على تمكنهم في الفصاحة وملكتهم في الكلام وانقياده لهم ، وله في القلوب أحسن موقع وأعذب مذاق» (٤).
واختلفوا في عدّه من المجاز ، فمنهم من عدّه منه لأنّ تقديم ما رتبته التأخير كالمفعول وتأخير ما رتبته التقديم كالفاعل نقل كل واحد منهما عن رتبته وحقه ، قال الزركشي : «والصحيح أنّه ليس منه ، فإنّ المجاز نقل ما ما وضع له الى ما لم يوضع» (٥).
والمعاني لها في التقديم خمس أحوال (٦) :
الأولى : تقدّم العلة على معلولها.
الثانية : التّقدّم بالذات كتقدم الواحد على الاثنين.
الثالثة : التّقدّم بالشرف.
الرابعة : التّقدّم بالمكان.
الخامسة : التّقدّم بالزّمان.
وتقديم الشيء على وجهين : تقديم على نية التأخير كتقديم الخبر اذا قدّم على المبتدأ ، وتقديم لا على نية التأخير ولكن على أن ينقل الشيء عن حكم الى حكم ، وذلك كأن يعمد الى اسمين يحتمل كل واحد منهما أن يكون مبتدأ ويكون الآخر خبرا له فيقدم تارة على ذاك واخرى على ذاك مثل : «زيد المنطلق» و «المنطلق زيد» ، فالتقديم والتأخير يؤثران في معنى الجملة لأنّ ما يقدم هو المبتدأ أو المسند اليه وما يؤخر هو الخبر أو المسند (٧). وباب التقديم والتأخير واسع لأنّه يشمل كثيرا من أجزاء الكلام ، فالمسند اليه يقدم لأغراض بلاغية منها : أنّه الاصل ولا مقتضى للعدول عنه كتقديم الفاعل على المفعول ، والمبتدأ على الخبر ، وصاحب الحال عليها.
وان يتمكن الخبر في ذهن السامع لأنّ في المبتدأ تشويقا اليه كقول أبي العلاء :
والذي حارت البرية فيه |
حيوان مستحدث من جماد |
وأن يقصد تعجيل المسرّة مثل : «سعد في دارك» أو الاساءة مثل : «السفّاح في دار صديقك».
وايهام أنّ المسند اليه لا يزول عن الخاطر مثل «اللهَ رَبِّي».
وايهام التلذذ بذكره كقول الشاعر :
بالله يا ظبيات القاع قلن لنا |
ليلاي منكنّ أم ليلى من البشر |
وتخصيص المسند اليه بالخبر الفعلي إن ولي حرف النفي كقول المتنبي :
وما أنا أسقمت جسمي به |
ولا أنا أضرمت في القلب نارا |
وتقوية الحكم وتقريره كقوله تعالى : (وَالَّذِينَ هُمْ بِرَبِّهِمْ لا يُشْرِكُونَ)(٨). وإفادة العموم مثل : «كل
__________________
(١) خزانة الادب ص ١١٢ ، نفحات ص ١١٩ ، كفاية الطالب ص ١٥٦.
(٢) أنوار الربيع ج ٢ ص ٣٠٨.
(٣) اللسان (قدم) و (أخر).
(٤) البرهان في علوم القرآن ج ٣ ص ٢٣٣.
(٥) البرهان في علوم القرآن ج ٣ ص ٢٣٣ ، الفوائد ص ٨٢.
(٦) الطراز ج ٢ ص ٥٦ ، وينظر معترك الاقران ج ١ ص ١٧٤ ، التبيان في البيان ص ٨٧.
(٧) ينظر دلائل الاعجاز ص ٨٣.
(٨) المؤمنون ٥٩.