كانت دراستهم لها قاصرة ، أما الذين عنوا باسلوب القرآن الكريم فقد تجاوزوا ذلك ونظروا الى التقديم والتأخير نظرة أوسع واكثر عمقا فجاءت مادتهم أغزر وبحوثهم أخصب ، ولا يكاد يستثنى من ذلك إلا عبد القاهر الذي أبدع في تحليل الأساليب البلاغية ونقل النحو من أحوال الإعراب والبناء الى المعاني التي تزخر بها العبارات ، وكانت نظريته في النظم من أحسن ما عرف النقد القديم والبلاغة العربية.
التّقسيم :
قسّم : جزّأ ، والتقسيم هو التجزئة والتفريق (١).
سمّاه الحلبي والنويري «التقسيم المفرد» (٢) ، والتقسيم من الأساليب العريقة في اللغة العربية ، فقد سمع عمر بن الخطّاب ـ رضياللهعنه ـ قول زهير وكان لشعره مقدما :
وإنّ الحقّ مقطعه ثلاث |
يمين أو نفار أو جلاء |
فقال كالمعجب : «من علّمه بالحقوق وتفصيله بينها واقامته أقسامها؟» (٣). وذكر الجاحظ إعجاب عمر ـ رضياللهعنه ـ بقول عبدة بن الطبيب أيضا :
والمرء ساع لأمر ليس يدركه |
والعيش شحّ وإشفاق وتأميل |
وقال : وكان عمر بن الخطاب ـ رضياللهعنه ـ يردد هذا النصف الآخر ويعجب من جودة التقسيم» (٤).
وكان ذلك أساس فن التقسيم في البلاغة العربية ، وقد قال القاضي الجرجاني عن قول زهير :
يطعنهم ما ارتموا حتى إذا اطّعنوا |
ضارب حتى إذا ما ضاربوا اعتنقا |
«فقسّم البيت على أحوال الحرب ومراتب اللقاء ، ثم ألحق بكل قسم مايليه في المعنى الذي قصده من تفضيل الممدوح فصار موصولا به مقرونا اليه» (٥).
وتحدث قدامة عن تمام الأقسام فقال : «هو أن يؤتى بالأقسام مستوفاة لم يخلّ بشيء منها ومخلصة لم يدخل بعضها في بعض» (٦). كقول بعضهم : «فانك لم تخل فيما بدأتني من مجد أثّلته ، وشكر تعجلته ، وأجر ادخرته». وتحدث عن صحة التقسيم وقال : «وصحة التقسيم أن توضع معان يحتاج الى تبيين أحوالها فاذا شرحت أتي بتلك المعاني من غير عدول عنها ولا زيادة عليها ولا نقصان منها» (٧).
كقول بعضهم : «انا واثق بمسالستك في حال بمثل ما أعلم من مشارستك في أخرى : لانك إذا عطفت وجدت لدنا ، وإذا غمزت ألفيت شثنا». وهذا غير التقسيم المعروف وإنما هو نوع من اللف والنشر.
وقال العسكريّ : «التقسيم الصحيح أن تقسم الكلام على جميع أنواعه ولا يخرج منها جنس من أجناسه» (٨).
وقال الخفاجي : «أن تكون الأقسام المذكورة لم يخلّ بشيء منها ولا تكرّرت ولا دخل بعضها تحت بعض» (٩).
وقال ابن رشيق : إنّ بعضهم يرى أنّ التقسيم «استقصاء الشاعر جميع أقسام ما ابتدأ به» (١٠) ، وعدّ من التقسيم التقطيع ، ومن التقطيع الترصيع.
وعدّ عبد القاهر التقسيم من النظم الجيد ولا سيما اذا تلاه جمع كقول حسان ابن ثابت :
__________________
(١) اللسان (قسم).
(٢) حسن التوسل ص ٢٨١ ، نهاية الارب ج ٧ ص ١٥٣.
(٣) البيان ج ١ ص ٢٤٠.
(٤) الحيوان ج ٣ ص ٤٦.
(٥) الوساطة ص ٤٧.
(٦) جواهر الالفاظ ص ٥.
(٧) جواهر الالفاظ ص ٦.
(٨) كتاب الصناعتين ص ٣٤١.
(٩) سر الفصاحة ص ٢٧٧.
(١٠) العمدة ج ٢ ص ٢٠.