وقال السّكّاكي في الإيهام : «هو أن يكون للفظ استعمالان قريب وبعيد فيذكر لإيهام القريب في الحال الى أن يظهر أنّ المراد به البعيد» (١) ، وهذا هو تعريف التورية. وقد مثّل له بقوله تعالى : (الرَّحْمنُ عَلَى الْعَرْشِ اسْتَوى)(٢) ولكن الزمخشري قال في تفسيرها : «إنّها كناية عن الملك كما في قوله : «يدفلان مبسوطة ويدفلان مغلولة بمعنى أنّه جواد أو بخيل» (٣). وبقوله تعالى : (وَالْأَرْضُ جَمِيعاً قَبْضَتُهُ يَوْمَ الْقِيامَةِ وَالسَّماواتُ مَطْوِيَّاتٌ بِيَمِينِهِ)(٤). وهي من التخييل عند الحلبي والنويري (٥) ، وذلك أحسن من أن يطلق على ما في كتاب الله من روعة وتخييل لفظ الايهام.
وفضّل القزويني مصطلح «التورية» وذكر أنّها تسمى إيهاما ، وقال : «هي أن يطلق لفظ له معنيان قريب وبعيد ويراد بها البعيد» (٦). وتبعه في ذلك شراح التلخيص (٧).
وقال العلوي : «إنّ هذا الاسم عبارة عن كل ما يفهم منه معنى لا يدلّ عليه ظاهر لفظه ويكون مفهوما عند اللفظ به» (٨). وأدخل فيها الكناية والتعريض والمغالطة والاحاجي والالغاز وقال : «فهذه الأمور كلها مشتركة في كونها دالة على أمور بظاهرها ويفهم عند ذكرها أمور أخر غير ما تعطيه بظواهرها».
وقال ابن قيم الجوزية : «هو أن يعلق المتكلم لفظة من الكلام بمعنى ثم يردها بعينها ويعلقها بمعنى آخر» (٩). وأدخلها السجلماسي في أنواع التعمية (١٠).
ولا تخرج تعريفات البلاغيين الآخرين عن هذا المعنى ، وقد ذكر المدني تنبيهين هما : (١١)
الاول : الفرق بين اللفظ الذي تتهيأ به التورية واللفظ الذي تترشح به واللفظ الذي تتبيّن به ، أنّ الأول لو لم يذكر لما تهيأت التورية أصلا ، والثاني والثالث انما هما مقوّيان للتورية ، ولم لم يذكرا لكانت التورية موجودة ، غير أنّ الثاني من لوازم المعنى القريب المورّى به ، والثالث يكون من لوازم المعنى البعيد المورّى عنه.
الثاني : ليس كل لفظ مشترك يتصور فيه التورية ، بل لا بدّ من اشتهار معانيه وتداولها على الألسنة بخلاف اللغات الغريبة ، إلا أن يختص قوم باشتهار لغة غريبة بينهم فينبغي اعتبار حال المخاطب بها.
والتورية أربعة أنواع : التورية المبينة ، والتورية المجردة ، والتورية المرشحة ، والتورية المهيأة.
التّورية المبيّنة :
وهي ما ذكر فيها لازم المورّى عنه قبل لفظ التورية أو بعده ، وهي قسمان :
الأول : هو ما ذكر لازمه من قبل ، كقول البحتري :
ووراء تسدية الوشاح مليّة |
بالحسن تملح في القلوب وتعذب |
ف «تملح» تحتمل أن تكون من الملوحة وهو المعنى القريب المورّى به ، وتحتمل أن تكون من الملاحة وهو المعنى البعيد المورّى عنه ، وقد تقدم من لوازمه على جهة التبيين «ملية بالحسن».
الثاني : هو الذي يذكر فيه لازم المورّى عنه بعد لفظ التورية كقول ابن سناء الملك :
__________________
(١) مفتاح العلوم ص ٢٠١.
(٢) طه ٥.
(٣) الكشاف ج ٣ ص ٥٢.
(٤) الزمر ٦٧.
(٥) حسن التوسل ص ٢٥٠ ، نهاية الارب ج ٧ ص ١٣٢.
(٦) الايضاح ص ٣٥٣ ، التلخيص ص ٣٥٩.
(٧) شروح التلخيص ج ٤ ص ٣٢٢ ، المطول ص ٤٢٥ ، الاطول ج ٢ ص ١٩٤.
(٨) الطراز ج ٣ ص ٦٢.
(٩) الفوائد ص ١٣٦.
(١٠) المنزع البديع ص ٢٦٩.
(١١) أنوار الربيع ج ٥ ص ١٤.