فيه عن شيء لطيف أو خفي أو قليل أو ما يجري مجرى ذلك فإنّها تحسن به كقول ابن أبي ربيعة :
وغاب قمير كنت أرجو طلوعه |
وروّح رعيان ونوّم سمّر |
وهذا تصغير مختار في موضعه.
ومعظم هذه الشروط تدخل في فصاحة الألفاظ المؤلّفة والإخلال بها قد يؤدّي الى زيادة القبح والتنافر في الكلام ؛ لأنّه حين تكون الألفاظ مجتمعة تحتاج الى دقة في التركيب واختيار اللطيف منها.
وكانت الفصاحة والبراعة والبلاغة والبيان ألفاظا مترادفة عند عبد القاهر لأنّها يعبّر بها عن «فضل بعض القائلين على بعض من حيث نطقوا وتكلّموا وأخبروا السامعين عن الأغراض والمقاصد وراموا أن يعلموهم ما في نفوسهم ويكشفوا لهم عن ضمائر قلوبهم» (١).
والفصاحة عنده تكون في المعنى ، وليس للكلمة المفردة كبير أهمية ، وكثيرا ما تستعمل اللفظة في موضع فتكون حلوة الجرس عذبة وتستعمل في موضع آخر فتفقد تلك المزية ، وإنّما كان ذلك «لأنّ المزية التي من أجلها نصف اللفظ في شأننا هذا بأنّه فصيح مزية تحدث بعد أن لا تكون وتظهر في العلم من بعد أن يدخلها النظم. وهذا شيء إن أنت طلبته فيها وقد جئت بها أفرادا لم ترم فيها نظما ولم تحدث لها تأليفا طلبت محالا ، وإذا كان كذلك وجب أن تعلم قطعا أنّ تلك المزية في المعنى دون اللفظ» (٢).
وعرّف الرازي الفصاحة بأنّها «خلوص الكلام من التعقيد» (٣) وأطنب ابن الاثير في الكلام على الفصاحة وناقش ابن سنان (٤) ، وعند ما قسّم السكاكي البلاغة لم يعقد مستقلا للفصاحة وإنّما تكلم عليها بعد أن انتهى من علم البيان ، وقال إنها قسمان : قسم راجع الى المعنى وهو خلوص الكلام من التعقيد ، وقسم راجع الى اللفظ وهو أن تكون الكلمة عربية أصيلة ، وعلامة ذلك أن تكون كثيرة الدوران على ألسنة الموثوق بعربيتهم واستعمالها أكثر ، لا مما أحدثه المولّدون أو أخطأت فيه العامة ، وأن تكون أجرى على قوانين اللغة ، سليمة من التنافر ، والمراد بتعقيد الكلام أن يعثر صاحبه الفكر في متصرفه ويشيك الطريق الى المعنى (٥).
واختصر ابن مالك القسم الثالث من «مفتاح العلوم» وتكلم على الفصاحة وأطلق عليها اسم البديع وقال : «هو معرفة توابع الفصاحة» وقال إنّ الفصاحة «صوغ الكلام على وجه له توفية بتمام الافهام لمعناه وتبين المراد منه» (٦) ، وقسمها الى معنوية ولفظية وذكر ما في «مفتاح العلوم» من صفات المعنوية واللفظية ، ثم قسم المعنوية الى مختصة بالافهام والتبيين والى مختصة بالتزيين والتحسين.
وتحدّث القزويني عن فصاحة اللفظة المفردة وفصاحة الكلام وقال إنّ الفصاحة تقع صفة للمفرد فيقال : «كلمة فصيحة» ولا يقال «كلمة بليغة» ووضع للفظة المفردة شروطا هي : خلوصها من تنافر الحروف ، والغرابة ، ومخالفة القياس اللغوي.
وتحدّث عن فصاحة الكلام وهي : خلوصه من ضعف التأليف وتنافر الكلمات ، والتعقيد مع فصاحتها (٧).
ولم يخرج شرّاح التلخيص عما وضع القزويني من شروط للفظة الفصيحة والكلام الفصيح (٨) ، وهي
__________________
(١) دلائل الاعجاز ص ٣٥.
(٢) دلائل الاعجاز ص ٣٠٧ ـ ٣٠٨.
(٣) نهاية الايجاز ص ٩.
(٤) المثل السائر ج ١ ص ٦٤ ، وما بعدها ، الجامع الكبير ص ٧٦ وما بعدها.
(٥) مفتاح العلوم ص ١٩٦.
(٦) المصباح ص ٧٥.
(٧) الايضاح ص ٢ ، التلخيص ص ٢٤.
(٨) شروح التلخيص ج ١ ص ٧٠ ، المطول ص ١٥ ، الأطول ج ١ ص ١٥ ، وينظر الروض المريع ص ٨٧ ـ ٨٨ ، ١٧٣ ـ ١٧٤ ، التبيان في البيان ص ٣٩٥.