(لَيْسَ لَهُمْ طَعامٌ إِلَّا مِنْ ضَرِيعٍ)(١) ، والضريع نبت وهو يبيس الشبرق ، ولا تقربه الابل أو الدواب لخبثه ، والمعنى ليس لهم طعام أصلا ، لأنّ الضريع ليس بطعام البهائم فضلا عن الانس.
ومن ذلك قول بعضهم :
وتفرّدوا بالمكرمات فلم يكن |
لسواهم منها سوى الحرمان |
والمراد نفي المكرمات عن سواهم لأنّه إذا كان لهم الحرمان من المكرمات فمالهم منها شي البتة.
الخامس : ليس مما تقدم بشيء كقوله تعالى : (عَفَا اللهُ عَنْكَ لِمَ أَذِنْتَ لَهُمْ)(٢) والمعنى المراد من هذا الكلام أنّك أخطأت وبئسما فعلت ، وقوله : (لِمَ أَذِنْتَ لَهُمْ) بيان لما كنى عنه بالعفو أي مالك أذنت لهم وهل أستأنيت؟ فذكر العفو دليل على الذنب ورادف له وإن لم يذكره.
ومن ذلك قول كثيّر :
وددت وما تغني الودادة أنني |
بما في ضمير الحاجبية عالم |
|
فان كان خيرا سرّني وعلمته |
وإن كان شرا لم تلمني اللوائم |
فان المراد من قوله «لم تلمني» أني أهجرها فأضرب عن ذلك جانبا ولم يذكر اللفظ المختص به ولكنه ذكر ما هو دليل عليه ورادف له.
ورجع المصري الى ما بدأه قدامة ونقل تعريفه وبعض أمثلته (٣) ، وقرّق الحموي بين الإرداف والكناية وقال : «قالوا : إنه هو والكناية شيء واحد.
قلت : إذ كان الأمر كذلك كان الواجب اختصارهما ، وانّما أئمة البديع كقدامة والحاتمي والرماني قالوا إنّ الفرق بينهما ظاهر. والإرداف هو أن يريد المتكلم معنى فلا يعبر عنه بلفظه الموضوع له بل يعبر عنه بلفظ هو رديفه وتابعه كقوله تعالى : (وَاسْتَوَتْ عَلَى الْجُودِيِ)(٤) فانّ حقيقة ذلك : جلست على المكان ، فعدل عن اللفظ الخاص بالمعنى الى لفظ هو رديفه ، وإنّما عدل عن لفظ الحقيقة لما في الاستواء الذي هو لفظ الإرداف من الإشعار بجلوس متمكن لا زيغ فيه ولا ميل. وهذا لا يحصل من لفظ «جلست» و «قعدت». ومن الامثلة الشعرية على الإرداف قول أبي عبادة البحتري يصف طعنة :
فأوجرته أخرى فأحالمت نصلها |
بحيث يكون اللبّ والرعب والحقد (٥) |
ومراده القلب فذكره بلفظ الإرداف.
والفرق بين الإرداف وبين الكناية أنّ الإرداف قد تقرر أنّه عبارة عن تبديل الكلمة بردفها ، والكناية هي العدول عن التصريح بذكر الشيء الى ما يلزم ؛ لأنّ الإرداف ليس فيه انتقال من لازم الى ملزوم ، والمراد بذلك انتقال المذكور الى المتروك كما يقال : «فلان كثير الرماد» ومراده نقله الى ملزومه وهي كثرة الطبخ للأضياف» (٦). ويبدو أنّ هذا التمييز لم يقع إلا بعد أن خاض السكاكي وشراح التلخيص في مباحث البلاغة التي ربطوها بالمنطق ، ولذلك فرّق السيوطي مثل ذلك التفريق وقال : «قال بعضهم : والفرق بين الكناية والإرداف أنّ الكناية انتقال من لازم الى ملزوم ، والإرداف من مذكور الى متروك» (٧). وذكر المدني أنّه والكناية شي واحد عند علماء البيان ، غير أنّ أئمة البديع فرقوا بينهما (٨).
__________________
(١) الغاشية ٦.
(٢) التوبة ٤٣.
(٣) تحرير التحبير ص ٢٠٧ ، بديع القرآن ص ٨٣.
(٤) هود ٤٤.
(٥) أوجره الرمح ؛ طعنه به في فيه.
(٦) خزانة الأدب ص ٣٧٦.
(٧) معترك ج ١ ص ٢٩٠ ، الاتقان ج ٢ ص ٤٨ ، شرح عقود الجمان ص ١١٧ ، الروض المريع ص ١١٧.
(٨) أنوار الربيع ج ٦ ص ٥١ ، وينظر نفحات ص ٧٩ ، شرح الكافية ص ١٩٩.