ومثل ذلك ما حكاه عن لقمان في وصيته لابنه إذ قال له : (يا بُنَيَّ لا تُشْرِكْ بِاللهِ إِنَّ الشِّرْكَ لَظُلْمٌ عَظِيمٌ)(١). تم قطع وأخذ في فن آخر فقال : (وَوَصَّيْنَا الْإِنْسانَ بِوالِدَيْهِ حَمَلَتْهُ أُمُّهُ وَهْناً عَلى وَهْنٍ) الى قوله : (فَأُنَبِّئُكُمْ بِما كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ)(٢).
ثم رجع الى تمام القول الأول في وصية لقمان فقال : (يا بُنَيَّ إِنَّها إِنْ تَكُ مِثْقالَ حَبَّةٍ مِنْ خَرْدَلٍ فَتَكُنْ فِي صَخْرَةٍ أَوْ فِي السَّماواتِ أَوْ فِي الْأَرْضِ يَأْتِ بِهَا اللهُ ، إِنَّ اللهَ لَطِيفٌ خَبِيرٌ)(٣). الى آخر الآيات» (٤).
وهذا قريب من الفصل والوصل ، ولكّنه أوسع منه لأنّه لا يخص ربط جملة بجملة أو فصل واحدة عن أخرى وإنّما ربط المعاني أو فصلها أي : قطعها.
القلب :
القلب : تحويل الشّيء عن وجهه ، قلبه يقلبه قلبا (٥).
القلب من الخروج على مقتضى الظاهر وذلك بأن يجعل أحد أجزاء الكلام مكان الآخر ، والآخر مكانه على وجه يثبت حكم كل منهما للآخر (٦).
وقد عقد ابن منقذ بابا للقلب ولكنّه غير ما أراده الأخرون فهو «أن يقصد شيئا ويكون المقتضى بضد ذلك الشيء» (٧) كما قال امرؤ القيس :
إذا قامتا تضوّع المسك منهما |
نسيم الصّبا جاءت برّيا القرنفل |
عابوا عليه تشبيه المسك بالقرنفل وقالوا : إنما يشبه القرنفل بالمسك لأنّه أجلّ منه. وقد خرّج النقاد له وجها غير ذلك فقالوا إنّه أراد قوله تضوّع ، أي مثل المسك كما قال أيضا :
ألم ترياني كلّما جئت طارقا |
وجدت بها طيبا وإن لم تطيّب |
أي : مثل الطيب. وهذا من التشبيه المقلوب او المعكوس او المنعكس.
وعقد الرازي للقلب فصلا وقال : «هو إما في الكلمة الواحدة أو في الكلمات فإن كان في الكلمة الواحدة فإما أن يتقدم كل واحد من حروفها على ما كان متأخرا عنه ويصير بعض الحروف كذلك دون بعض ، فالاول يسمّى مقلوب الكلّ مثل : «الفتح» و «الحتف» في قوله :
حسامك منه للأحباب فتح |
ورمحك منه للأعداء حتف |
ثم إن وقع مثل هاتين الكلمتين على طرفي البيت سمّي مقلوبا مجنحا كقوله :
ساق هذا الشاعر الحي |
ن الى من قلبه قاس |
|
سار حيّ القوم فالهم |
م علينا جبل راس |
وإن كان التقديم والتأخير في بعض حروف الكلمة سمّي مقلوب البعض كقوله ـ صلىاللهعليهوسلم ـ «استر عوراتنا وآمن روعاتنا» ، وإما إن كان القلب في مجموع كلمات بحيث يكون قرابتها من أوّلها الى آخرها عين قرابتها من آخرها الى أولها فذلك مقلوب مستو مثل قول الحريري :
آس أرملا إذا عرى |
وارع اذا المرء أسا (٨) |
وهذا ما ذكره الوطواط (٩) من قبل وذكره السكاكي
__________________
(١) لقمان ١٣.
(٢) لقمان ١٤ ـ ١٥.
(٣) لقمان ١٦.
(٤) البرهان في وجوه البيان ص ١٥٦ ـ ١٥٧.
(٥) اللسان (قلب).
(٦) شروح التلخيص ج ١ ص ٤٨٦.
(٧) البديع في نقد الشعر ص ١٧٦.
(٨) نهاية الايجاز ص ٣٣.
(٩) حدائق السحر ص ١٠٨.