مبتدعاته (١) وقد تقدّم السلب والإيجاب.
مراعاة الحروف :
قال التنوخي : «ومن البيان مراعاة الحروف ومعانيها ومواقع اللبس فيها واشتباه بعضها ببعض وهذا مما يحتاج الى الطباع السليمة والتدرّب في معاني الشعر والخطب وما جاء من كلام العرب في مكاتباتهم الى غير ذلك مما استعملوه» (٢). ومن ذلك قوله تعالى : (كَلَّا لَمَّا يَقْضِ ما أَمَرَهُ. فَلْيَنْظُرِ الْإِنْسانُ إِلى طَعامِهِ. أَنَّا صَبَبْنَا الْماءَ صَبًّا. ثُمَّ شَقَقْنَا الْأَرْضَ شَقًّا. فَأَنْبَتْنا فِيها حَبًّا. وَعِنَباً وَقَضْباً. وَزَيْتُوناً وَنَخْلاً. وَحَدائِقَ غُلْباً. وَفاكِهَةً وَأَبًّا. مَتاعاً لَكُمْ وَلِأَنْعامِكُمْ. فَإِذا جاءَتِ الصَّاخَّةُ. يَوْمَ يَفِرُّ الْمَرْءُ مِنْ أَخِيهِ. وَأُمِّهِ وَأَبِيهِ. وَصاحِبَتِهِ وَبَنِيهِ)(٣). قال التنوخي : لما زجر بـ (كَلَّا) وأخبر أنّ المرء لم يقض ما أمر به عقب الزجر بالأمر فأتى بالفاء مستأنفا للجملة الاخرى وتعقيبا للزجر بالأمر وتنبيها على أنّ غفلة الإنسان مما ينبغي له سبب لأن يوعظ.
فالفاء هنا دلّت على الاستئناف والتعقيب والتسبب.
وعطف شق الأرض على صبّ الماء بـ «ثم» إذ لا بدّ بينهما من مهلة وقال : (فَأَنْبَتْنا) إذ انشقاق الأرض بالنبات فلا مهلة بينهما ، ثم عطف النبات بعضه على بعض بالواو لأنّ فيه ما ينبت بعضه مع بعض وما ينبت بعضه عقيب بعض وما يتقدم بعضه على بعض ويتأخّر من غير تعقيب. والواو تستعمل في هذه المواضع كلها إذ هي لمجرّد الاشتراك. ثم قال : (فَإِذا جاءَتِ الصَّاخَّةُ) وليس وقت مجيئها عقيب ما قبلها فهي لتعقيب الوعظ بعضه ببعض إذ هو من توابع الزجر وليس في هذا العطف تعرض لتوالي الأوقات ثم قال : (يَوْمَ يَفِرُّ الْمَرْءُ مِنْ أَخِيهِ. وَأُمِّهِ وَأَبِيهِ. وَصاحِبَتِهِ وَبَنِيهِ) فعطف بالواو لأنّه يفر من المفرور منه إذا لقيه ولقاؤه لهم قد يكون في وقت واحد وقد يكون في أوقات مختلفة ، والواو هي الجامعة لذلك كله. وقدّم الأخ على الأم ، والأم على الأب ، والأب على الصاحبة والصاحبة على الابناء انتقالا من كل واحد الى من هو أعز منه وأشد حفاوة ، والأب وإن كان كالأمّ أو مرجوحا من جهة البر فانه يرجى نصره أكثر من الأمّ والمحافظة على الرجال أشد منها على النساء. وأخر الصاحبة عنه وإن كانت لا يرجى نصرها لزيادة الانس والمودة التي جعل الله بينهما ، وأخّر البنين عنها لأنّهم الغاية والنتيجة وزيادة حبهم بالطبع على كل أحد».
ومثل ذلك حروف الجر قال : التنوخي : «وانظر الى حروف الجر في مثل قوله تعالى : (وَإِنَّا أَوْ إِيَّاكُمْ لَعَلى هُدىً أَوْ فِي ضَلالٍ مُبِينٍ)(٤). استعمل «على» بالنسبة الى «الهدى» و «في» بالنسبة الى الضلال مع أنّ كلّ واحد منهما يجوز أن يقال فيه «على» و «في» لأنّ الهدى من الله والله الهادي والدالّ على طريق الهدى ، فكل من «هدى» و «دل» فهو على الهدى ، ولا يوصف أحد بأنّه فيه إلّا لقربه وعلو مرتبته ، وهذا لا يكون إلّا للآحاد ممن يشاء الله فاستعملت «على» لشمولها وأمّا الضلال فيوصف به من ضل عن الهدى. ومن لم يهتد بعد وهو مما ينسب الى الإنسان على سبيل الأدب مع الله فالضلال محيط بالضال بالطبع حتى يهديه الله فـ «في» هنا استعملت لأنّها أبلغ من «على» ، وأيضا فانّ الترديد ههنا في الظاهر واما في نفس الأمر فالمشركون هم في الضلال منغمسون غاية الانغماس فتكون «في» أنسب. وكان ابن الأثير قد تحدث عن ذلك في «الحروف العاطفة والجارة» وقال : «إنّ أكثر الناس يضعون هذه الحروف في غير مواضعها فيجعلون ما ينبغي أنّ يجر بـ «على» بـ «في»
__________________
(١) عروس الافراح ج ٤ ص ٤٧١ ، خزانة الادب ص ٩٩ ، معترك ج ١ ص ٤١٨ ، الاتقان ج ٢ ص ٩٦ ، شرح عقود الجمان ص ١٣٤ ، أنوار الربيع ج ٢ ص ٣٥٠ ، نفحات الأزهار ص ١٠٧ ، التبيان في البيان ص ٢٦٦ ، شرح الكافية ص ٩٩.
(٢) الاقصى القريب ص ٨٨.
(٣) عبس ٢٣ ـ ٣٦.
(٤) سبأ ٢٤.