إعجاز القرآن الكريم فقد ذهب بعضهم الى أنّ القرآن معجز بنظمه العجيب. وكان ابن المقفّع قد أشار الى نظم الكلام وأنّ الناظم كصاحب الفصوص وجد ياقوتا وزبر جدا ومرجانا فنظمه قلائد وسموطا وأكاليل ووضع كل فصّ موضعه وجمع الى كل لون شبهه مما يزيده بذلك حسنا فسمّي بذلك صائغا رقيقا (١).
وتحدّث الجاحظ عن النظم وسمّى أحد كتبه «نظم القرآن» وذهب الى أنّ كتاب الله معجز بنظمه البديع «الذي لا يقدر على مثله العباد» (٢). وتطوّرت الفكرة عند أبي سعيد السيرافي الذي قال : «معاني النحو منقسمة بين حركات اللفظ وسكناته وبين وضع الحروف في مواضعها المقتضبة لها وبين تأليف الكلام بالتقديم والتأخير وتوخّي الصواب في ذلك وتجنّب الخطأ في ذلك وإن زاغ شيء عن النعت فإنه لا يخلو أن يكون سائغا بالاستعمال النادر والتأويل البعيد أو مردودا لخروجه عن عادة القوم الجارية على فطرتهم» (٣).
وأطال علماء الإعجاز في هذه المسألة وقال الباقلّاني : «فأما شأو نظم القرآن فليس له مثال يحتذى عليه ولا إمام يقتدى به ولا يصح وقوع مثله اتفاقا كما يتفق للشاعر البيت النادر والكلمة الشاردة والمعنى الفذ الغريب والشيء القليل العجيب» (٤).
وقال : «ليس الإعجاز في نفس الحروف وإنّما هو في نظمها وإحكام رصفها وكونها على وزن ما أتى به النبي ـ صلىاللهعليهوسلم ـ وليس نظمها أكثر من وجودها متقدّمة ومتأخرة ومترتّبة في الوجود ، وليس لها نظم سواها» (٥).
وكان القاضي عبد الجبّار أكثر وضوحا حينما رأى أنّ الفصاحة والبلاغة تقومان على ضمّ الكلمات وتقارنها (٦). وتلقّف عبد القاهر ما كان من مسائل النظم وخطا خطوة واسعة ووضع أصول نظرية النظم التي جمدت بعد ذلك في مباحث علم المعاني عند السّكّاكي والقزويني وشرّاح التلخيص.
وليس النظم عند عبد القاهر سوى تعليق الكلم بعضها ببعض وجعل بعضها بسبب من بعض (٧).
وليس النظم سوى حكم من النحو نتوخّاه ، أي أنّه معاني النحو قال : «واعلم أن ليس النظم إلا أن تضع كلامك الوضع الذي يقتضيه علم النحو وتعمل على قوانينه وأصوله وتعرف مناهجه التي نهجت فلا تزيغ عنها وتحفظ الرسوم التي رسمت فلا تخلّ بشيء منها.
وذلك أنّا لا نعلم شيئا يبتغيه الناظم بنظمه غير أن ينظر في وجوه كل باب وفروقه» (٨).
والفرق بين الأساليب ليس فرقا في الحركات وما يطرأ على الكلمات وإنما في معاني العبارات التي يحدثها ذلك الوضع والنظم الدقيق ، ولذلك فليست العمدة في معرفة قواعد النحو وحدها ولكن فيما تؤدّي اليه هذه القواعد والأصول ، أي أنّ الهدف منها الدلالة على المعنى. وقد كان النحو عند عبد القاهر واسعا أخذ به البلاغيون وبنوا عليه علم المعاني ، وفرق كبير بين توخّي معاني النحو والخروج عليها فالفرزدق أفسد عبارته حينما قال :
وما مثله في الناس إلا مملّكا |
أبو أمه حيّ أبوه يقاربه |
والبحتري جاء بنظم بديع حينما قال :
بلونا ضرائب من قد نرى |
فما إن رأينا لفتح ضريبا |
__________________
(١) الادب الصغير ـ آثار ابن المقفع ص ٣١٩ ، رسائل البلغاء ص ٥ ـ ٦.
(٢) الحيوان ج ٤ ص ٩٠.
(٣) الإمتاع والمؤانسة ج ١ ص ١٠٧.
(٤) اعجاز القرآن ص ١٦٩.
(٥) كتاب التمهيد ص ١٥١.
(٦) المغني ج ١٦ ص ١٩٩. وما بعدها.
(٧) دلائل الاعجاز ص (ص).
(٨) دلائل الاعجاز ص ٦٤.