هو المرء أبدت له الحادثا |
ت عزما وشيكا ورأيا صليبا |
|
تنقّل في خلقي سؤدد |
سماحا مرجّى وبأسا مهيبا |
|
فكالسيف إن جئته صارخا |
وكالبحر إن جئته مستشيبا |
ولم تحسن هذه الأبيات إلّا لأنّ الشاعر عرف كيف يصوغ الكلمات في عبارات جميلة ويضع كل كلمة الى لفقها ويربط بين الالفاظ ربطا بديعا ، وليس كذلك الفرزدق الذي قدّم وأخر فأفسد المعنى وعقّد التركيب.
ومن النظم ما يتّحد في الوضع ويدقّ فيه الصنع وذلك أن تتّخذ أجزاء الكلام ويدخل بعضها في بعض ويشتد ارتباط ثان بأوّل ، وأن يحتاج في الجملة الى أن توضع في النفس وضعا واحدا وأن يكون الحال فيها حال الباني يضع بيمينه ههنا في حال ما يضع بيساره هناك. ومنه ما لا يحتاج الى فكر وروية لكي ينتظم بل سبيله في ضمّ بعضه الى بعض سبيل من عمد الى لآل فخرطها في سلك لا يبغي أكثر من أن يمنعها التفرق وكمن نضد أشياء بعضها الى بعض لا يريد في نضده ذلك أن تجيء له منه هيئة أو صورة بل ليس إلّا أن تكون مجموعة في رأي العين ، وذلك إذا كان المعنى لا يحتاج أن يصنع فيه شيء غير عطف لفظ على مثله.
ولا بدّ أن يتغيّر المعنى إذا تغيّر النظم وفي ذلك مجال رحب يجول فيه المنشئون.
لقد وضّح عبد القاهر أصول «علم المعاني» في كتابه «دلائل الإعجاز» وسمّاه «النظم» أو «معاني النحو» وليست معاني النحو إلّا علم المعاني الذي عرّفه السّكّاكي بقوله : «هو تتبع خواصّ تراكيب الكلام في الإفادة وما يتّصل بها من الاستحسان وغيره ليحتزر بالوقوف عليها عن الخطأ في تطبيق الكلام على ما يقتضي الحال ذكره» (١). ولكنّ السّكاكي ومن جاء بعده لم يستطع أن يحلّق كما حلّق عبد القاهر في شرح النظم وإبرازها مع أنّ الموضوعات التي عولجت في الفنين واحدة وهي ما يتّصل بالجملة أو الجملتين من أساليب الخبر والانشاء ، والتقديم والتأخير ، والحذف والذّكر ، والقصر وخلافه ، والفصل والوصل ، والإيجاز الإطناب والمساواة. وقد تقدّم الكلام على ذلك في «المعاني».
النّفي :
تحدّث ابن منقذ عن النفي وقال : «إنّ النفي قد كثر في أشعار العرب المحدثين» (٢) كقول عديّ :
وما مخدر ورد يرشح شبله |
بخفان قد أحمى جميع الموارد |
|
كأنّ دماء الهاديات بنحره |
صبيب ملاءات خضيب مجاسد |
|
بأمنع منه موئلا حين تلقه |
إذا الحرب أبدت عن خدام الخرائد (٣) |
ومن ذلك قول الشاعر :
وما هاج هذا الشوق إلا حمامة |
دعت ساق حرّ ترحة وترنما |
|
مطوّقة خطباء تصدح كلما |
دنا الصيف وانجاب الربيع فأنجما |
|
عجبت لها أنّى يكون غناؤها |
فصيحا ولم تفغر بمنطقها فما |
__________________
(١) مفتاح العلوم ص ٧٧.
(٢) البديع في نقد الشعر ص ١٢٣ ، وينظر كفاية الطالب ص ١٨٤.
(٣) المخدر : الأسد. الورد : الجريء. خفان : مأسدة قرب الكوفة. الهاديات من الابل : أول رعيل يطفح منها. ثوب مجسد : مصبوغ بالزعفران.
خدام : جمع خدمة وهي الخلخال.