فلم أر مثلي شاقه صوت مثلها |
ولا عربيا شاقه صوت أعجما (١) |
وقول الآخر :
وما روضة بالحزن طيبة الثرى |
يمجّ النّدى جثجاثها وعرارها |
|
لها أرج بين البلاد كأنما |
تلقّى بها عطّارها وتجارها |
|
بأطيب من فيها إذا جئت طارقا |
وقد أوقدت بالمندل الرطب نارها (٢) |
نفي الشّيء بإيجابه :
ويسمّى «نفي الشيء بنفي لازمه» قال ابن رشيق : «وهذا الباب من المبالغة وليس بها مختصّا إلا أنّه من محاسن الكلام فاذا تأمّلته وجدت باطنه نفيا وظاهره ايجابا» (٣).
وقال المصري : «هو أن يثبت المتكلّم شيئا في ظاهر كلامه وينفي ما هو من سببه مجازا ، والمنفي في باطن الكلام حقيقة هو الذي أثبته» (٤). ونقل الحلبي والنّويري والحموي هذا التعريف (٥). وقال السّيوطي : «هذا النوع يورده المنطقيون في كتبهم ويعبّرون عنه بعبارة على اصطلاحهم ويمثّلون له بقولهم : «ما في الدار زيد» ويقصدون عدم وجود زيد في الدنيا أصلا فاذا وقع لأرباب الحديث والسّنّة مثل هذا فانّهم يتحاشون عن التعبير عنه باصطلاح المناطقة وقد وسع الله لهم في العبارة فليوردوه على اصطلاح أهل البديع» (٦).
فللبلاغيين في تفسير هذا النوع عبارتان :
الأولى : ما فسّره به ابن رشيق في العمدة وهو أن يكون الكلام ظاهره إيجاب الشيء وباطنه نفيه.
الثانية : ما فسّره به غيره وهو أن ينفى الشيء مقيّدا والمراد نفيه مطلقا مبالغة في النفي وتأكيدا له (٧).
ومن أمثلة ابن رشيق قول امرىء القيس :
على لا حب لا يهتدى بمناره |
إذا سافه العود النّباطيّ جرجرا (٨) |
فقوله : «لا يهتدى بمناره» لم يرد أنّ له منارا لا يهتدى به ولكن أراد أنّه لا منار له فيهتدى بذلك المنار.
ومن أمثلة المصري قوله تعالى : (لا يَسْئَلُونَ النَّاسَ إِلْحافاً)(٩) فان ظاهره نفي الإلحاف في المسألة لا نفي المسألة ، والباطن نفي المسألة بتاتا. ومنه بيت امرىء القيس : «على لا حب ...»
وقال المصري : «ومن هذا الباب قسم يوجب فيه المتكلّم لنفسه شيئا وينفيه بعينه عن غيره أو ينفي عن موصوف ما صفة يوجبها لموصوف آخر» (١٠) كقول السموأل :
وننكر إن شئنا على الناس قولهم |
ولا ينكرون القول حين نقول |
وقول الآخر :
__________________
(١) سباق حر : ذكر القماري. الخطبة ـ بالضم ـ لون كدر مشرب حمرة في صفرة.
(٢) الجثجاث : ريحانة طيبة الريح برية. العرار : نوع من النبات البري له رائحة طيبة. المندل : العود ، أو أجوده.
(٣) العمدة ج ٢ ص ٨٠.
(٤) تحرير التحبير ص ٣٧٧ ، بديع القرآن ص ١٥٢ ، كفاية الطالب ص ١٩٥.
(٥) حسن التوسل ص ٢٩٤ ، نهاية الارب ج ٧ ص ١٦٣ ، خزانة الادب ص ٢٣٣ ، نفحات ص ٢٧٥ ، شرح الكافية ص ١٥٨.
(٦) شرح عقود الجمان ص ١٣٤ ، الاتقان ج ٢ ص ٧٧.
(٧) أنوار الربيع ج ٤ ص ٣٦٤.
(٨) اذا سافه العود : اذا شمه المسن من الابل صوت ورغا. النباطي : منوب الى النبط. جرجر :صوت.
(٩) البقرة ٢٧٣.
(١٠) تحرير التحبير ص ٣٧٨.