حياته وطلبه للعلوم
بيئته : عاش السكاكي حياته كلها ـ على الراجح ـ في إقليم خوارزم لم يتحول عنه إلى غيره ، حيث اكتفى بتحصيل علومه في مساجد خوارزم ، متأثرا بتلك البيئة التي كانت مركزا من المراكز العلمية آنذاك. وكان المذهب الشائع في خوارزم هو الاعتزال ، فأثر ذلك في أغلب علمائها الذين اتخذوا من الاعتزال منهجا في الدفاع عن العقيدة في وجه الملاحدة والزنادقة ، وإن جرهم ذلك إلى الوقوع في كثير من التأويلات العقلية البعيدة التي أدت إلى انتقادهم وإهدار كثير من جهودهم.
وقد تخرج في تلك البيئة جملة من الأعلام ، منهم عبد القاهر الجرجاني (٤٧١ ه) صاحب (دلائل الإعجاز) و (أسرار البلاغة) و (الجمل) ، ورشيد الدين الوطواط (٥٧٣ ه) صاحب (دقائق السحر) وجار الله الزمخشري (٥٣٨ ه) صاحب (الكشاف) و (أساس البلاغة) و (المفصل في النحو) ، و (الأنموذج في النحو) وغيرها من التصانيف النافعة. وفخر الدين الرازي (٦٠٦ ه) صاحب (التفسير الكبير) ، و (نهاية الإيجاز في دراية الإعجاز) ، وغيرهم كثير ممن لا يحصون كثرة.
نشأ السكاكي في تلك البيئة التي تخرج بها هؤلاء الأعلام ، وتأثر بالحياة الفكرية الثقافية في تلك المدينة ، ولم ينج من التأثر بمذهب الاعتزال كأكثر علماء بلده ، فهو يعترف في علم البيان بعقيدته الاعتزالية في بعض أمثلته حيث يقول : " قولك عند المخالف : الله إلهنا ، ومحمد نبينا والإسلام ديننا ، والتوحيد والعدل مذهبنا ، والخلفاء الراشدون أئمتنا ، والناصر لدين الله خليفتنا ، والدعاء له والثناء عليه وظيفتنا ...". فهو يعترف في هذا النص أن مذهبه هو التوحيد والعدل ، أي مذهب المعتزلة ، كما يكشف هذا النص عن فائدة أخرى ، وهي بيانه أنه عاش فترة خلافة الناصر لدين الله الخليفة العباسي الذي تولى الخلافة سنة ٥٧٥ ه ، وتوفي سنة ٦٢٢ ه (١) ، وأنه في هذه الفترة كان قد صنف كتابه المفتاح ؛ مما يرجح أنه قد ألفه بعد سنة ٦٠٠ ه ، وذلك لأن السكاكي قد أخذ العلم بعد أن مضى من عمره ثلاثون عاما على ما تذكر المصادر في ترجمته.
طلبه للعلوم : بدأ السكاكي حياته في صناعة المعادن ، على ما تذكر المصادر ثم تحول بعد الثلاثين إلى طلب العلوم طلبا للحظوة عند الملوك ، ولم يزل يتقدم في أمر
__________________
(١) انظر الكامل في التاريخ ١١ / ٤٥٩ ، ١٢ / ٤٣٧.