مشاهدتها ؛ تعجيبا من جرأته على كل هول ، وثباته عند كل شدة ، وقوله سبحانه : (إِنَّ مَثَلَ عِيسى عِنْدَ اللهِ كَمَثَلِ آدَمَ خَلَقَهُ مِنْ تُرابٍ ثُمَّ قالَ لَهُ كُنْ فَيَكُونُ)(١) دون : (كن فكان) من هذا القبيل ، واستلزم في مثل : (لَوْ أَنْتُمْ تَمْلِكُونَ)(٢) حمله على تقدير : لو تملكون تملكون لفائدة التأكيد ، ثم حذف الفعل الأول اختصارا ؛ لدلالة ضميره عليه المبدل ، بعد ذهاب الفعل ، منفصلا ، وأمثال هذه اللطائف لا تتغلغل فيها إلّا أذهان الراضة (٣) من علماء المعاني ؛ ولمبنى علم المعاني على التتبع لتراكيب الكلام واحدا فواحدا ، كما ترى ، وتطلب العثور على ما لكل منها من لطائف النكت مفصلة ، لا تتم الإحاطة به إلا لعلام الغيوب ، ولا يدخل كنه بلاغة القرآن إلّا تحت علمه الشامل.
واعلم أن مستودعات فصول هذا الفن لا تتضح إلّا باستبراء زناد خاطر وقاد ، ولا تنكشف أسرار جواهرها إلّا لبصيرة ذي طبع نقاد ، ولا تضع أزمتها إلّا في يد راكض في حلبتها إلى أنأى مدى ، باستفراغ طوق متفوق أفاويق استثباتها بقوة فهم ، ومعونة ذوق مولع من لطائف البلاغة بما يؤثرها القلوب بصفايا حباتها ، وتنثر عليها أفئدة مصاقع (٤) الخطباء خبايا محباتها ، متوسل بذلك أن يتألق في وجه الإعجاز في التنزيل ، متنقلا مما أجمله عجز المتحدين به عندك إلى التفصيل ، طامع من رب العزة والكبرياء في المثوبة الحسنى ، والفوز عنده يوم النشور بالذخر الأسنى.
__________________
(١) سورة آل عمران الآية ٥٩.
(٢) سورة الإسراء الآية : ١٠٠.
(٣) أذهان الراضة : يعني العلماء الذين راضوا المعاني ، وعلموها وتبحروا فيها ، من راض المهر يروض رياضا ورياضة فهو مروض.
(٤) مصاقع الخطباء : بلغاؤهم ، واحده مصقع.