اشتعل رأسي شيبا ، وكونها أبلغ من جهات :
إحداها : إسناد الاشتعال إلى الرأس لإفادة شمول الاشتعال الرأس ، إذ وزان : اشتعل شيب رأسي ، واشتعل رأسي شيبا ، وزان : اشتعل النار في بيتي واشتعل بيتي نارا ، والفرق نير.
وثانيتها : الإجمال والتفصيل في طريق التمييز.
وثالثتها : تنكير" شيبا" لإفادة المبالغة ، ثم ترك : (اشتعل رأسي شيبا) ، لتوخي مزيد التقرير إلى : اشتعل الرأس مني شيبا ، على نحو : (وَهَنَ الْعَظْمُ مِنِّي) ثم ترك لفظ : (مني) لقرينة عطف ، واشتعل الرأس على وهن العظم مني ، لمزية مزيد التقرير ، وهي إيهام حوالة تأدية مفهومه على العقل دون اللفظ.
الاختصار :
واعلم أن الذي فتق أكمام هذه الجهات عن أزاهير القبول في القلوب ، هو أن مقدمة هاتين الجملتين وهي : رب ، اختصرت ذلك الاختصار بأن حذفت كلمة النداء وهي : " يا" وحذفت كلمة المضاف إليه وهي : " ياء المتكلم" واقتصر من مجموع الكلمات على كلمة واحدة فحسب ، وهي المنادى ، والمقدمة للكلام ، كما لا يخفى على من له قدم صدق في نهج البلاغة ، نازلة منزلة الأساس للبناء ، فكما أن البناء الحاذق لا [يرمي](١) الأساس إلا بقدر ما يقدر من البناء عليه ، كذلك البليغ يصنع بمبدأ كلامه ، فمتى رأيته اختصر المبدأ ، فقد آذنك باختصار ما يورد ، ثم إن الاختصار لكونه من الأمور النسبية يرجع في بيان دعواه إلى ما سبق تارة ، وإلى كون المقام خليقا بأبسط مما ذكر أخرى.
والذي نحن بصدده من القبيل الثاني ، إذ هو كلام في معنى انقراض الشباب وإلمام المشيب ، وهل معنى أحق أن يمتري القائل فيه أفاويق المجهود ، ويستغرق في الإنباء عنه
__________________
(١) في (د): (يرى).