الباب الخامس
في النداء
ما يتعلق بالنداء من حروفه وتفصيل الكلام في معانيها سبق التعرض لذلك في علم النحو ، فلا نتكلم فيه ، ولكن ههنا نوع من الكلام ، صورته صورة النداء ، وليس بنداء ، فننبه عليه.
تلك الصورة هي قولهم : أما أنا فأفعل كذا أيها الرجل ، ونحن نفعل كذا أيها القوم ، واللهم اغفر لنا أيتها العصابة ، يراد بهذا النوع من الكلام الاختصاص على معنى : أنا أفعل كذا متخصصا بذلك من بين الرجال ، ونحن نفعل كذا متخصصين من بين الأقوام ، واللهم اغفر لنا مخصوصين من بين العصائب.
واعلم أن الطلب كثيرا ما يخرج لا على مقتضى الظاهر ، وكذلك الخبر ، فيذكر أحدهما في موضع الآخر ، ولا يصار إلى ذلك إلا لتوخي نكت قلما يتفطن لها من لا يرجع إلى دربة في نوعنا هذا ، ولا يعض فيه بضرس قاطع ، والكلام بذلك متى صادف متممات البلاغة افتر لك عن السحر الحلال بما شئت.
ومن المتممات ما قد سبق لي : أن نظم الكلام إذا استحسن من بليغ لا يمتنع أن لا يستحسن مثله من غير البليغ ، وإن اتحد المقام ، إذ لا شبهة في صحة اختلاف النظم ، مقبولا وغير مقبول عند اختلاف المقام ، فلا بد لحسن الكلام من انطباق له على ما لأجله يساق ، ومن صاحب له عرّاف بجهات الحسن لا يتخطاها ، وإلّا لم يمتنع حمل الكلام منه على غيرها ، ويتعرى عن الحسن لذهاب كسوته ، ولا بدّ مع ذلك من إذن لافتنانات البلاغة مصوغة ، فما الآفة العظمى ، والبلية الكبرى ، لتلك الافتنانات إلّا من أصمخة هي لغيرها مخلوقة ، إذا اتصل بذويها كلام لا ترى به الدر الثمين ، مسخه لهم جهلهم مسخا يفوقه قيمة المشخلب (١).
__________________
(١) المشخلب : كلمة عراقية ليس على بنائها شىء من العربية ، وتتخذ من الليف والخرز أمثال الحلى.