وإذا عرفت أن إيراد المعنى الواحد على صور مختلفة لا يتأتى إلا في الدلالات العقلية ، وهي : الانتقال من معنى إلى معنى بسبب علاقة بينهما ، كلزوم أحدهما الآخر بوجه من الوجوه ، ظهر لك أن علم البيان مرجعه اعتبار الملازمات بين المعانى.
ثم إذا عرفت أن اللزوم إذا تصور بين الشيئين ، فإما أن يكون من الجانبين ، كالذي بين الأمام والخلف بحكم العقل ، أو بين طول القامة وبين طول النجاد بحكم الاعتقاد ، أو من جانب واحد ، كالذي بين العلم والحياة بحكم العقل ، أو بين الأسد والجراءة بحكم الاعتقاد ، ظهر لك أن مرجع علم البيان اعتبار هاتين الجهتين : جهة الانتقال من ملزوم إلى لازم ، وجهة الانتقال من لازم إلى ملزوم.
ولا يربك بظاهره الانتقال من أحد لازمي الشيء إلى الآخر ، مثل ما إذا انتقل من بياض الثلج إلى البرودة ، فمرجعه ما ذكر ، ينتقل من البياض إلى الثلج ، ثم من الثلج إلى البرودة ، فتأمل.
وإذا ظهر لك أن مرجع علم البيان هاتان الجهتان ، علمت انصباب علم البيان إلى التعرض للمجاز والكناية. فإن المجاز ينتقل فيه من الملزوم إلى اللازم ، كما تقول : رعينا غيثا ، والمراد لازمه ، وهو النبت ، وقد سبق أن اللزوم لا يجب أن يكون عقليّا ، بل إن كان اعتقاديّا ، إمّا لعرف أو لغير عرف ؛ صح البناء عليه ، وإما نحو قولك : أمطرت السماء نباتا ، أي : غيثا ، من المجازات المنتقل فيها عن اللازم إلى الملزوم ، فمنخرط في سلك : رعينا الغيث.
وفصل ترجيح المجاز على الحقيقة ، والكناية على التصريح ، إذا انتهينا إليه ، يطلعك على كيفية انخراطه في سلكه ، بإذن الله تعالى. والمطلوب بهذا التكلف هو الضبط ، فاعلم.
وإن الكناية ينتقل فيها من اللازم إلى الملزوم ، كما تقول : فلان طويل النجاد ، والمراد طول القامة الذي هو ملزوم طول النجاد ، فلا يصار إلى جعل النجاد طويلا أو قصيرا ، إلا لكون القامة طويلة أو قصيرة ، فلا علينا أن نتخذهما أصلين.
وإذ لا يخفى ، أن طريق الانتقال من الملزوم إلى اللازم طريق واضح بنفسه ، ووضوح طريق الانتقال من اللازم إلى الملزوم إنما هو بالغير ، وهو العلم بكون اللازم