فلست أبالي أن هذه الأوامر بأسرها من باب المجاز الحكمي.
وإذا تأملت المجاز العقلي ، وجدت الحاصل منه يرجع إلى إيقاع نسبة في غير موضعها عند الموقع ، لا من حيث اللغة لضرب من التأول ، مثل النسبة بين : إنبات البقل والربيع في الخبر ، والأمر ، والنهي ، والاستفهام ؛ وبين الوزير وبناء القصر في ذلك.
أقسام المجاز في رأي السكاكي :
هذا كله تقرير للكلام في هذا الفصل بحسب رأي الأصحاب ، من تقسيم المجاز إلى : لغوي وعقلي ، وإلّا فالذي عندي هو نظم هذا النوع في سلك الاستعارة بالكناية ، بجعل الربيع استعارة بالكناية عن الفاعل الحقيقي بوساطة المبالغة في التشبيه ، على ما عليه مبنى الاستعارة كما عرفت ، وجعل نسبة الإنبات إليه قرينة للاستعارة ، وبجعل الأمير المدبر لأسباب هزيمة العدو استعارة بالكناية عن الجند الهازم ، وجعل نسبة الهزم إليه قرينة للاستعارة.
وإنني ، بناء على قولي هذا ههنا ، وقولي ذلك في فصل الاستعارة التبعية ، وقولي في المجاز الراجع عند الأصحاب إلى حكم للكلمة على ما سبق ـ أجعل المجاز كله لغويا ، وينقسم عندي هكذا إلى : مفيد وغير مفيد ؛ والمفيد إلى : استعارة وغير استعارة ، والاستعارة إلى : مصرح بها ومكنى عنها ، والمصرح بها إلى : تحقيقية وتخييلية ، والمكنى عنها إلى : ما قرينتها أمر مقدر وهمي ، كالأنياب في قولك : خ خ أنياب المنية ، وخ خ كنطقت ، في قولك : خ خ نطقت الحال بكذا ، أو أمر محقق ، كالإنبات ، في قولك : خ خ أنبت الربيع البقل ، وكالهزم ، في قولك : خ خ هزم الأمير الجند ، والتحقيقية والتخييلية كلتاهما إلى : قطعية واحتمالية للتحقيق والتخييل بتحصيل أقسام ثلاثة من ذلك : تحقيقية بالقطع ، تخييلية بالقطع ، تحقيقية أو تخييلية بالاحتمال.
واعلم أن حدّ الحقيقة الحكمية والمجاز الحكمي ، عند أصحابنا رحمهمالله ، غير ما ذكرت. حد الحقيقة الحكمية عندهم : كل جملة وضعتها على أن الحكم المفاد بها على ما هو عليه في العقل ، وواقع موقعه. وحد المجاز الحكمي : كل جملة أخرجت الحكم المفاد بها عن موضوعه في العقل ، لضرب من التأول. وإذ قد عرفت ما ذكرت وما ذكروا ، فاختر أيهما شئت!