بمنزلة الانتقال من الملزوم إلى اللازم. فيصير حال الكناية كحال المجاز في كون الشيء معها مدعى ببينة ، ومع الإفصاح بالذكر مدعى لا ببينة ؛ وبهذا الطريق ينخرط نحو : أمطرت السماء نباتا ، في سلك ، نحو : خ خ رعينا الغيث. فافهم.
هذا ما أمكن من تقرير كلام السلف ، رحمهمالله ، في هذين الأصلين ، ومن ترتيب الأنواع فيهما ، وتذييلها بما كان يليق بها ، وتطبيق البعض منها بالبعض ، وتوفية كل من ذلك حقه على موجب مقتضى الصناعة ، وسيحمد ما أوردت ذوو [سيحمدا](١) ما أوردت ذوو البصائر ، وإني أوصيهم ، إن أورثهم كلامي نوع استمالة ، وفاتهم ذلك في كلام السلف إذا تصفحوه ، أن لا يتخذوا ذلك مغمزا للسلف أو فضلا لي عليهم ، فغير مستبدع في أيما نوع ، فرض أن يزل عن أصحابه ما هو أشبه بذلك النوع في بعض الأصول أو الفروع ، أو التطبيق للبعض بالبعض متى كانوا المخترعين له ، وإنما يستبدع ذلك ممن زجى عمره راتعا في مائدتهم تلك ، ثم لم يقو أن يتنبه.
وعلماء هذا الفن ، وقليل ما هم ، كانوا في اختراعه ، واستخراج أصوله ، وتمهيد قواعدها ، وإحكام أبوابها وفصولها ، والنظر في تفاريعها ، واستقراء أمثلتها اللائقة بها ، وتلقطها من حيث يجب تلقطها ، وإتعاب الخاطر في التفتيش والتنقير عن ملاقطها ، وكدّ النفس والروح في ركوب المسالك المتوعرة إلى الظفر بها ، مع تشعب هذا النوع إلى شعب. بعضها أدق من البعض ، وتفننها أفانين بعضها أغمض من بعض ، كما عسى أن يقرع سمعك طرف من ذاك ، فعلوا ما وفت به القوة البشرية إذ ذاك ، ثم وقع عند فتورها منهم ما هو لازم الفتور.
الخلاصة :
وأما بعد فإن خلاصة الأصلين هي : أن الكلمة لا تفيد البتة إلا بالوضع ، أو الاستلزام بوساطة الوضع ، وإذا استعملت فإما أن يراد : معناها وحده ، أو غير معناها وحده ، أو معناها وغير معناها معا ؛ فالأول هو : الحقيقة في المفرد ، وهي تستغني في
__________________
(١) في (ط) سيحمدها ، والتصويب من (غ) و (ك) و (د).