أنجز الموعود من إهلاك الكفرة وإنجاء نوح ومن معه في السفينة ، ثم أتبعه حديث السفينة وهو قوله : (وَاسْتَوَتْ عَلَى الْجُودِيِّ ،) ثم ختمت القصة بما ختمت. هذا كله نظر في الآية من [جانب](١) البلاغة.
النظر في الآية من جانب الفصاحة :
وأما النظر فيها من جانب الفصاحة المعنوية فهي كما ترى : نظم للمعاني لطيف ، وتأدية لها ملخصة مبينة ، لا تعقيد يعثر الفكر في طلب المراد ، ولا التواء يشيك الطريق إلى المرتاد ، بل إذا جربت نفسك ، عند استماعها ، وجدت ألفاظها تسابق معانيها ، ومعانيها تسابق ألفاظها ، فما من لفظة في تركيب الآية ونظمها تسبق إلى أذنك ، إلّا ومعناها أسبق إلى قلبك.
وأما النظر فيها من جانب الفصاحة اللفظية : فألفاظها على ما ترى عربية مستعملة ، جارية على قوانين اللغة ، سليمة عن التنافر ، بعيدة عن البشاعة ، عذبة على العذبات ، سليسة على الإسلات ، كل منها كالماء في السلاسة ، وكالعسل في الحلاوة ، وكالنسيم في الرقة.
ولله در شأن التنزيل ، لا يتأمل العالم آية من آياته إلا أدرك لطائف لا تسع الحصر ، ولا تظنّنّ الآية مقصورة على ما ذكرت ، فلعل ما تركت أكثر مما ذكرت ؛ لأن المقصود لم يكن إلّا مجرد الإرشاد لكيفية اجتناء ثمرات علمي المعاني والبيان ، وأن لا علم في باب التفسير بعد علم الأصول ، أقرأ منهما على المرء لمراد الله تعالى من كلامه ، ولا أعون على تعاطي تأويل مشتبهاته ، ولا أنفع في درك لطائف نكته وأسراره ، ولا أكشف للقناع عن وجه إعجازه ، هو الذي يوفي كلام رب العزة من البلاغة حقه ، ويصون له في مظان التأويل ماءه ورونقه ، ولكم آية من آيات القرآن تراها قد ضيمت حقها ، واستلبت [ماءها](٢) ورونقها ، إن وقعت إلى من ليسوا من أهل هذا العلم ، فأخذوا بها
__________________
(١) في (د ، غ) جانبي.
(٢) كذا في الأصول.