فتأمله ، فإني أرى عالما من الناس يتعجبون من هذا القول ، وأنا أتعجب من تعجبهم ، ويوردون في إبطال هذا القول حججا يكفى في إبطالها مجرد تلخيص محل النزاع ، وأما إثباته في الاستقبال ، فلا وجه له عندي سوى تخصيص الضرورة اللاحقة بالوجود دون العدم بوساطة العناية لا غير ، تشبثا فيها بأن الضرورة اللاحقة متى ذكرت ، ذكرت مع الوجود.
إطلاق الجمل وتقييدها :
وإذ قد قرع سمعك ما تلونا عليك ، لزم أن نتكلم في إطلاق الجمل وفي تقييدها ، بما سبق ذكره ، ثم نتكلم في النقائض. وقبل أن نشرع في ذلك ننبهك على أصل كلي ، وهو مزلة أقدام في هذا الفن لا بد من التنبه له ، وهو : أن اعتبار كلمة النفي جزء من المدخول عليه ، مغاير لاعتبارها غير جزء منه. ولذلك يمتنع : اللاموجود أسود ، والمعدوم هو لا أسود. وقد تقدم تحقيق هذا في علم المعاني ، في فصل وصف المعرف ، ويسمى هذا : إثباتا مشوشا. ولا يمتنع : ليس الموجود أسود ، والمعدوم ليس هو أسود ، في الإثبات المشوش ، ويصح : ليس المعدوم أسود ، في النفي المبين ، وإذا عرفت الإثبات المشوش والنفي المبين ، فقس عليهما الإثبات المبين والنفي المشوش. وكما تصورت في النفي ما ذكرت فتصوره بعينه في جانب الإمكان والضرورة ، والدوام واللادوام ، بينما إذا جعلت أجزاء من المبتدأ والخبر ، وبينما إذا جعلت جهات الحكم الجملة ، في الإثبات أو في النفي ، مستجمعا لتمام تصوره مثابة رؤيتك.
ثم من بعد التنبيه نقول : المبتدأ ، كليا كان أو بعضيا. إذا أثبت له الخبر ، كقولنا :
خ خ كل إنسان ناطق ، خ خ أو بعض الناس فصيح. أو نفي عنه ، كقولنا : لا إنسان بعالم غيب ، أو لا كل فصيح بشاعر ، من غير بيان أنه مشروط أو لا مشروط ، وأنه دائم أو لا دائم ، وأنه ضروري أو لا ضروري ، سميت : الجملة مطلقة عامة.
ومن الناس من يزعم : أن الجملة لا تصدق إلا مع الدوام ، ولو صدق في زعمه لامتنع قولنا : خ خ بعض الأجسام ساكن ؛ لكن إما دائما وإما غير دائم ، ولا يمتنع ، وله وجه دفع.
ومن الناس من يزعم : أن الجملة لا تصدق كلية إلا مع الضرورة ، لكن جزم العقل