فصل : وجه الإعجاز في الاستدلال
وإذ قد أفضى بنا القلم إلى هذا الحد من علمي المعاني والبيان ، وما أظنك يشتبه عليك ، وأنك منذ وفقنا لتحريك القلم فيهما لتشاهد ما تشاهد ، أنّا ما سطرنا ما سطرنا إلا وجل الغرض توخي إيقاظك مما أنت فيه ، من رقدة غباك عن ضروب افتنانات في النسج لحبير الكلام على منوال الفصاحة ، وإبداع وشيه بتصاوير عن كمال التأنق في ذلك إشدادا وإلجاما ، عسى إن استيقظت أن يضرب لك بسهم ، حيث ينص الإعجاز للبصيرة تليله ، ويقص على المذاق دقيقه وجليله ، فتنخرط في سلك المنقول عنهم في حق كلام رب العزة : إن له الحلاوة ، وإن عليه لطلاوة ، وإن أسفله لمغدق ، وإن أعلاه لمثمر ، وإنه يعلو وما يعلى ، وما هو بكلام البشر ؛ فتستغني بذلك عن قرع باب الاستدلال ، وأن لا تتجاذبك أيدي الاحتمالات في وجه الإعجاز ، فلنقصص عليك ما عليه المتحرفون عن هذا المقام.
اعلم أن قارعي باب الاستدلال ، بعد الاتفاق على أنه معجز ، مختلفون في وجه الإعجاز.
فمنهم من يقول : وجه الإعجاز : هو أنه ، عز سلطانه ، صرف المتحدين لمعارضة القرآن عن الإتيان بمثله بمشيئته ، لا أنها لم تكن مقدورا عليها فيما بينهم في نفس الأمر ، لكن لازم هذا القول كون المصروفين عن الإتيان بالمعارضة على التعجب من تعذر المعارضة ، لا من نظم القرآن ، مثله إذا قال لك مدع شيئا : حجتي في دعواي هذا أني أضع الساعة يدي على نحري ، ويتعذر ذلك عليك ، ووجدت حجته صادقة ، فإن التعجب في ذلك يكون منصرفا إلى تعذر وضع يدك على النحر ، لا إلى وضع المدعي يده على نحره ، واللازم كما ليس يخفى ، منتف.
ومنهم من يقول : وجه إعجاز القرآن وروده على أسلوب مبتدأ مباين لأساليب كلامهم في خطبهم وأشعارهم ، لا سيما في مطالع السور ، ومقاطع الآي ، مثل : يؤمنون ، يعملون ، لكن ابتداء أسلوب ، لو كان يستلزم تعذر الإتيان بالمثل ، لاستلزم ابتداء أسلوب الخطبة أو الشعر. إذ لا شبهة في أنهما مبتدآت ، تعذر الإتيان بالمثل. واللازم كما ترى منتف.