وإنّي لست أدري أنّ هذه المفاضلة المتسالم عليها بين الصحابة في حياة رسول الله صلىاللهعليهوآلهوسلم لما ذا نسيها أُولئك العدول بموته صلىاللهعليهوآلهوسلم؟ ولما ذا لم يُصفقوا على ذلك الاختيار الذي كان يسمعه رسول الله صلىاللهعليهوآلهوسلم فلا ينكره؟ ووقع الخلاف والتشاحّ والتلاكم والتشاتم والنزاع ، حتى كاد أن يقتل صنو النبيّ الأعظم في تلك المعمعة ، ورأت بضعته الصدّيقة ما رأت ، ووقعت وصمات لا تنسى طيلة حياة الدنيا ، وأُرجئ دفن رسول الله صلىاللهعليهوآلهوسلم ثلاثاً ، وكانت الصحابة بمعزل عنه صلىاللهعليهوآلهوسلم وعن إجنانه (١) ، وما حضر الشيخان دفنه (٢). قال النووي في شرح صحيح مسلم (٣) : كان عذر أبي بكر وعمر وسائر الصحابة واضحاً لأنّهم رأوا المبادرة بالبيعة من أعظم مصالح المسلمين ، وخافوا من تأخيرها حصول خلاف ونزاع تترتّب عليه مفاسد عظيمة ، ولهذا أخّروا دفن النبيّ صلىاللهعليهوآلهوسلم حتى عقدوا البيعة لكونها كانت أهمّ الأُمور ، كي لا يقع نزاع في مدفنه ، أو كفنه ، أو غسله ، أو الصلاة عليه ، أو غير ذلك.
ثم لو كان الأمر كما زعم ابن عمر من الاختيار فتقديم أبي بكر يوم السقيفة الرجلين : عمر وأبا عبيدة على نفسه وقوله : بايعوا أحد الرجلين ، أو قوله : قد رضيت لكم أحد هذين الرجلين فبايعوا أيّهما شئتم. لما ذا؟
ولما ذا قول أبي بكر لأبي عبيدة الجرّاح حفّار القبور : هلمّ أبايعك فإنّ رسول الله صلىاللهعليهوآلهوسلم يقول : إنّك أمين هذه الأُمّة؟
تاريخ ابن عساكر (٤) (٧ / ١٦٠).
__________________
(١) يقال : أجنّه في قبره ، أي : دفنه.
(٢) راجع ما أسلفناه في الجزء السابع : ص ٧٥. (المؤلف)
(٣) [شرح صحيح مسلم : ١٢ / ٧٨] في كتاب الجهاد ، باب قول النبيّ لا نُورَث ما تركنا فهو صدقة ، عند قول عليّ عليهالسلام لأبي بكر : لكنّك استبددت علينا بالأمر وكنّا نحن نرى لنا حقّا لقرابتنا من رسول الله. (المؤلف)
(٤) تاريخ مدينة دمشق : ٢٥ / ٤٦٣ رقم ٣٠٥١ ، وفي مختصر تاريخ دمشق : ١١ / ٢٦٩.