يأنس ابن هند بذلك الخطاب الباطل ، ولم يشنّع على من يسلّم عليه بالرسالة ، غير أنّه لم يرُقه أن يذكر نبيّ الإسلام بالرسالة ، ويزريه بذكر اسمه ، وهو يعلم أنّ العظمة لا تُفارقه ، والرسالة تلازمه ، ذكر الحفّاظ من محاورة جرت بين معاوية وبين أمد بن أبد الحضرمي (١) ، أنّ معاوية قال : أرأيت هاشماً؟ قال : نعم والله طوالاً حسن الوجه ، يقال : إنّ بين عينيه بركة. قال : فهل رأيت أميّة؟ قال : نعم ، رأيته رجلاً قصيراً أعمى ، يقال : إنّ في وجهه شرّا أو شؤماً. قال : أفرأيت محمداً؟ قال : ومن محمد؟ قال : رسول الله. قال : أفلا فخّمته كما فخّمه الله ، فقلت : رسول الله (٢)؟!
التحكيم لما ذا :
إنّ آخر بذرة بذرها ابن النابغة لخلافة معاوية المرومة منذ بدأ الأمر ، وإن تستّر بها آونة على الأغبياء ، وتترّس بطلب دم عثمان دون نيل الأمنية بين القوم آونة أخرى ، حين سوّلت له نفسه أن يستحوذ على إمرة المسلمين بالدسائس ، فأوّل تلكم البذرة أو القنطرة الأولى الطلب بدم عثمان ، وفي آخر الحيل الدعوة إلى تحكيم كتاب الله واستقضائه في الواقعة بعد ما نبذوه وراء ظهورهم ، وكان مولانا أمير المؤمنين عليهالسلام يدعوهم ـ منذ أوّل ظهور الخلاف بينه وبين ابن هند ، ومنذ نشوب الحرب الطاحنة ـ (٣) إلى التحكيم الصحيح الذي لا يعدو محكمات القرآن ونصوصه ، لو لا أنّ ابن النابغة وصاحبه يُسيّران على الأُمّة غدراً ومكراً ، وعلى إمام الحقّ خيانة وظلماً غير ما يتظاهران به من تحكيم الكتاب ، فوقع هنالك ما وقع من لوائح الفتنة ، ومظاهر العدوان ، بين دهاء ابن العاص وحماريّة الأشعري ، بين قول أبي موسى لابن العاصي :
__________________
(١) أحد المعمّرين ، قد أتى عليه من السنّ يوم استقدمه معاوية ستون وثلاثمائة سنة ، ترجمه ابن عساكر في تاريخ الشام ، ومترجمو الصحابة في معاجمهم. (المؤلف)
(٢) تاريخ ابن عساكر : ٣ / ١٠٣ [٣ / ٩٠ وفي مختصر تاريخ دمشق : ٥ / ٣١] ، أُسد الغابة : ١ / ١١٥ [١ / ١٣٦ رقم ٢٢٣]. (المؤلف)
(٣) راجع ما أسلفناه في هذا الجزء : صفحة ٢٧٦. (المؤلف)