نظرة في اجتهاد معاوية :
هاهنا حقّ علينا أن نميط الستر عن اجتهاد معاوية ، ونناقش القائلين به في أعماله ، أفهل كانت على شيء من النواميس الأربعة : الكتاب ، السنّة ، الاجماع ، القياس؟ أو هل علم معاوية علم الكتاب؟ وعند من درسه؟ ومتى زاوله؟ وقد كان عهده به منذ عامين (١) قبل وفاة رسول الله صلىاللهعليهوآلهوسلم ، وهل كان يميّز بين محكماته ومتشابهاته؟ أو يفرّق بين مجمله ومبيّنه؟ أو يمكنه الحكم في عمومه وخصوصه؟ أو أحاط خبراً بمطلقه ومقيّده؟ أو عرف شيئاً من ناسخه ومنسوخه ، إلى غير هذه من أضراب الآي الكريمة ، ومزايا المصحف الشريف الداخل علمها في استنباط الأحكام منه؟
إنّ ظروف معاوية على عهد استسلامه لا يسع شيئاً من ذلك ، على حين أنّها تستدعي فراغاً كثيراً لا يتصرّم بالسنين الطوال ، فكيف بهذه الأويقات اليسيرة التي تُلهيه في أكثرها الهواجس والأفكار المتضاربة من نواميس دينه القديم ـ الوثنيّة ـ وقد أتى عليها ما انتحله من الدين الجديد ـ الاسلام ـ ، فأذهب عنه هاتيك ، ولم يجئ بعد هذا على وجهه بحيث يرتكز في مخيّلته ، ويتبوّأ في دماغه.
وكان قد سبقه جماعة إلى الإسلام وكتابه ، وهم بين حكم النبيّ ومحكماته ، وإفاضاته وتعاليمه ، وهم لا يُبارحون مُنتديات النبوّة ، وهتافها بالتنزيل والتأويل الصحيح الثابت ، قضوا على ذلك أعواماً متعاقبة ومُدداً كثيرة ، فلم يتسنّ لهم الحصول على أكثر تلكم المبادئ ، وانكفئوا عنها صفر الأكفّ ، خاوي الوطاب ، انظر إلى ذلك الذي حفظ سورة البقرة في اثنتي عشرة سنة ، حتى إذا تمكّن من الحفظ بعد ذلك
__________________
(١) هو وأبوه وأخوه من مسلمة سنة الفتح ، كما في الاستيعاب [٣ / ١٤١٦ رقم ٢٤٣٥] ، وكان ذلك في أُخريات السنة الثامنة للهجرة ، ووفاة النبي صلىاللهعليهوآلهوسلم في أوليات سنة ١١. (المؤلف)