وهذا المعنى يتأكّد خاصّة في عصر نزول هذه الآيات حيث كان المسلمون في شوق شديد إلى الجهاد كما يحدّثنا القرآن عن أولئك الّذين أتوا النبي يطلبون منه السلاح ليشاركوا في ساحة الجهاد وإذ لم يجدوا ذلك عادوا مهمومين محزونين (تَوَلَّوْا وَأَعْيُنُهُمْ تَفِيضُ مِنَ الدَّمْعِ حَزَناً أَلَّا يَجِدُوا ما يُنْفِقُونَ) (١).
فعبارة (وَلا تُلْقُوا بِأَيْدِيكُمْ إِلَى التَّهْلُكَةِ) بالرّغم من أنّها واردة في ترك الإنفاق في الجهاد الإسلامي ، ولكنّ مفهومها واسع يشمل موارد اخرى كثيرة ، منها أنّ الإنسان ليس له الحقّ في اتّخاذ الطرق الخطرة للسّفر (سواء من الناحية الأمنيّة أو بسبب العوامل الجويّة أو غير ذلك) دون أن يتّخذ لنفسه الاحتياطات اللّازمة لذلك ، كما لا يجوز له تناول الغذاء الّذي يحتمل قويّا أن يكون مسموما وحتّى أن يرد ميدان القتال والجهاد دون تخطيط مدروس،ففي جميع هذه الموارد الإنسان مسئول عن نفسه في ما لو ألقى بها في الخطر بدون عذر مقبول.
وتصوّر بعض الجهلاء من أنّ كلّ ألوان الجهاد الابتدائي هو إلقاء النفس في التّهلكة وحتّى أنهم أحيانا يعتبرون قيام سيد الشهداء الإمام الحسين عليهالسلام في كربلاء مصداق لهذه الآية ، وهذا ناشئ من الجهل المطبق وعدم درك مفهوم الآية الشريفة ، لأنّ إلقاء النفس بالتّهلكة يتعلّق بالموارد الّتي لا يكون فيها الهدف أثمن من النفس وإلّا فلا بدّ من التضحية بالنفس حفاظا على ذلك الهدف المقدّس كما صنع الإمام الحسين وجميع الشهداء في سبيل الله كذلك.
فهل يتصوّر أحد أنّ الشّخص الّذي يرى النبي صلىاللهعليهوآلهوسلم في خطر فيحميه بنفسه ويذبّ عنه معرّضا نفسه للخطر فداء لرسول الله صلىاللهعليهوآلهوسلم (كما صنع علي عليهالسلام في حرب احد أو في ليلة المبيت) فهل يعني هذا إلقاء للنفس بالتّهلكة وإنّه صنع حراما؟ وهل
__________________
(١) التوبة : ٩٢.