لمعرفة الحقيقة ، وقد أبعدتهم هذه الحالة عن طريق الرشاد وأخرجتهم من جادة الصوا ، بحيث لم يبق أمل في هدايتهم ، فاستحقوا بذلك عذاب الله ، ولم تعد تنفع فيهم شفاعة الشافعين ، وفي هذا المجال تقول الآية الكريمة : (وَمَنْ يُرِدِ اللهُ فِتْنَتَهُ فَلَنْ تَمْلِكَ لَهُ مِنَ اللهِ شَيْئا) وقد تدنست قلوب هؤلاء إلى درجة لم تعد قابلة للتطهير ، وحرمهم الله لذلك طهارة القلوب ، فتقول الآية : (أُولئِكَ الَّذِينَ لَمْ يُرِدِ اللهُ أَنْ يُطَهِّرَ قُلُوبَهُمْ ...) وعمل الله مقرون بالحكمة دائما ، لأن من يقضي عمرا في الانحراف ويمارس النفاق والكذب ويخالف الحق ويرفض الحقيقة ، ويحرف قوانين الله لن يبقى له مجال للتوبة والعودة إلى الحق ، حيث تقول الآية الكريمة في هذا المجال : (لَهُمْ فِي الدُّنْيا خِزْيٌ وَلَهُمْ فِي الْآخِرَةِ عَذابٌ عَظِيمٌ).
أمّا الآية الثّانية فتؤكّد ـ مرّة أخرى ـ على أن هؤلاء لديهم آذان صاغية لاستماع حديث النّبي صلىاللهعليهوآلهوسلم لا لإطاعته بل لتكذيبه ، أو كما يقول تفسير آخر فإنّ هؤلاء آذانهم صاغية لاستماع أكاذيب كبارهم ، فتقول الآية : (سَمَّاعُونَ لِلْكَذِبِ ...)وقد تكررت هذه الجملة في آيتين متتاليتين تأكيدا واثباتا لوجود هذه الصفة الشنيعة في هؤلاء.
كما أضافت الآية صفة شنيعة أخرى اتصف بها اليهود ، وهي تعودهم وادمانهم على أكل الأموال المحرمة والباطلة من الرّبا والرّشوة وغير ذلك ، حيث تقول الآية : (أَكَّالُونَ لِلسُّحْتِ ...) (١).
ثمّ تخير الآية النّبي بين أن يحكم بينهم أو أن يتجنبهم ويتركهم ، حيث تقول الآية : فَإِنْ جاؤُكَ فَاحْكُمْ بَيْنَهُمْ أَوْ أَعْرِضْ عَنْهُمْ ...) ولا يعني التخيير أن يستخدم النّبي صلىاللهعليهوآلهوسلم ميله ورغبته في اختيار أحد الأمرين المذكورين ، بل إن
__________________
(١) تعني كلمة (سحت) في الأصل نزع القشرة ، أو شدّة الجوع ، ثمّ أطلقت على كل مال غير مشروع ، أي محرم ، وبالأخص الرشوة ، لأن مثل هذه الأموال تنزع الصفاء والمودة عن المجتمع وتزيل عنه البركة والرخاء مثلما يؤدي نزع قشر الشجرة إلى ذبولها وجفافها وعلى هذا الأساس فإن لكلمة (سحت) معنى واسعا ، وإذا ورد في بعض الرّوايات مصداق خاص لها فلا يدل ذلك على اختصاص الكلمة بذلك.