مصلحة كما نرى الإشارة إليه في الآيتين (٢٦ و ٢٧) من سورة الجن (عالِمُ الْغَيْبِ فَلا يُظْهِرُ عَلى غَيْبِهِ أَحَداً ، إِلَّا مَنِ ارْتَضى مِنْ رَسُولٍ فَإِنَّهُ يَسْلُكُ مِنْ بَيْنِ يَدَيْهِ وَمِنْ خَلْفِهِ رَصَداً).
فعلى هذا لا منافاة ولا تضادّ بين هذه الآيات ـ محل البحث ـ التي تنفي أن يعلم الأنبياء الغيب ، وبين الآيات أو الرّوايات التي تنسب إلى الأنبياء أو الأئمّة العلم ببعض الغيب.
فمعرفة أسرار الغيب والاطلاع عليها من خصوصيّات الله بالذات ، وما عند الآخرين فبالعرض و «بالتعليم الإلهي» ، ولذلك فإنّ علم الغيب عند غير الله محدود بالحدود التي يريدها الله سبحانه (١).
٢ ـ مقياس معرفة الفضيلة :
مرّة أخرى نواجه الواقعية في هذه الآيات ، وهي أن أصحاب الثروة والقوة وعبيد الدنيا الماديّين يرون جميع الأشياء من خلال نافذتهم المادية .. فهم يتصورون أنّ الاحترام والشخصيّة هما ثمرة وجود الثروة والمقام والحيثيات فحسب ، فلا ينبغي التعجب من أن يكون المؤمنون الصادقون الذين خلت أيديهم من المال والثروة في قاموسهم «أراذل» وينظرون إليهم بعين الاحتقار والازدراء.
ولم تكن هذه المسألة منحصرة في نوح وقومه ، إذ كانوا يصفون المؤمنين المستضعفين حوله ـ ولا سيما الشباب الوعي منهم ـ بأنّ عقولهم خالية وأفكارهم قاصرة ، وكأنّهم لا قيمة لهم. فالتاريخ يكشف أن هذا المنطق كان موجودا في عصر الأنبياء الآخرين وعلى الأخصّ في زمن نبي الإسلام صلىاللهعليهوآلهوسلم والمؤمنين الأوائل.
كما نرى الآن مثل هذا المنطق في عصرنا وزماننا ، فالمستكبرون الذين يمثلون فراعنة العصر ـ اعتمادا على سلطانهم وقدراتهم وقواهم الشيطانية ـ يتهمون
__________________
(١) لمزيد من الإيضاح يراجع ذيل الآية (٥٠) من سورة الأنعام وذيل الآية (١٨٨) من سورة الأعراف.