جمعت بينهما فقلت عارفنه أو عارفوه لم يجز شيء من ذينك ، وإنما هذا لمعاملة الحاضر وإطراح حكم الغائب فاعرفه وقسه فإنه باب واسع.
المبحث الثالث : في مراجعة الأصل الأقرب دون الأبعد
قال ابن جنّي : هذا موضع بحث قلما وقع تفصيله وهو معنى يجب أن ينبه عليه ويحرر القول فيه.
من ذلك قولهم في ضمة الذال من قولك : ما رأيته مذ اليوم إنهم يقولون : في ذلك إنهم لما حركوها لالتقاء الساكنين لم يكسروها لكنهم ضموها. لأن أصلها الضم في : منذ كذا لعمري!! لكنه الأصل الأقرب ، ألا ترى أن أول حال هذه الذال أن تكون ساكنة وأنها إنما ضمت لالتقاء الساكنين إتباعا لضمه الميم ، فهذا على الحقيقة هو الأصل الأول ، فأما ضمّ ذال منذ فإنما هو بعد سكونها الأول المقدر ، ويدلّ على أن حركتها إنما هي لالتقاء الساكنين أنه لما زال التقاؤهما سكنت الذال في مذ وهذا واضح ، فضمة الذال إذن من قولهم مذ اليوم إنما هو ردّ إلى الأصل الأقرب الذي هو منذ دون الأبعد المقدر الذي هو سكون الذال في منذ قبل أن تحرك ، ولا يستنكر الاعتداد بما لم يخرج إلى اللفظ لأن الدليل إذا قام على شيء كان في حكم الملفوظ به وإن لم يجر على ألسنتهم استعماله ، ألا ترى إلى قول سيبويه في (سردد) أنه إنما ظهر تضعيفه لأنه ملحق بما لم يجئ وقد علمنا أن الإلحاق إنما هو صناعة لفظية ، ومع هذا فلم يظهر ذاك الذي قدره ملحقا هذا به ، فلو لا ما يقوم الدليل عليه مما لم يظهر إلى النطق بمنزلة الملفوظ به لما ألحقوا سرددا بما لم يفوهوا به.
ومن ذلك قولهم : بعت وقلت ، فهذه معاملة على الأصل الأقرب دون الأبعد ، لأن أصلهما فعل بفتح العين بيع وقول ، ثم نقلا من فعل إلى فعل وفعل ، ثم قلبت الواو والياء في فعلت ألفا فالتقى ساكنان العين المعتلة المقلوبة ألفا ولام الفعل ، فحذفت العين لالتقائهما فصار التقدير قلت وبعت ، فهذه مراجعة أصل ، إلا أنه ذلك الأصل الأقرب لا الأبعد ، ألا ترى أن أول أحوال هذه العين في صيغة المثال إنما هو فتحة العين التي أبدلت منها الضمة والكسرة وهذا واضح.
ومن ذلك قولهم في (مطايا) و (عطايا) : أنهما لما أصارتهما الصنعة إلى مطاء وعطاء أبدلوا الهمزة على أصل ما في الواحد وهو الياء في مطية وعطية ، في الأصل مطيوة وعطيوة لأنهما من مطوت وعطوت ، فأصل الياء فيهما الواو ولوحظ ما فيهما