فإن قال : فأخبرني عن الكلام المنطوق به الذي نعرفه الآن بيننا ، أتقولون : إن العرب كانت نطقت به زمانا غير معرب ثم أدخلت عليه الإعراب أم هكذا نطقت به في أول تبلبل ألسنتها به؟
قيل له : هكذا نطقت به في أول وهلة ولم تنطق به زمانا غير معرب ثم أعربته.
فإن قال : من أين حكمتم على سبق بعضه بعضا ، وجعلتم الإعراب الذي لا يعقل أكثر المعاني إلا به ثانيا ، وقد علمتم أنها تكلمت به هكذا جملة.
قيل له : قد عرّفناك أن الأشياء تستحقّ المرتبة والتقديم والتأخير على ضروب فنحكم لكل واحد منها بما يستحقه ، وإن كانت لم توجد إلا مجتمعة ، ألا ترى أنا نقول : إن العرض داخل في الأسود ، عرض الأسود والجسم أقدم من العرض بالطبع والاستحقاق ، وإن العرض قد يجوز أن يتوهم زائلا عن الجسم والجسم باق ، فنقول : إن الجسم الأسود قبل السواد ونحن لم نر الجسم خاليا من السواد الذي هو فيه ولا رأينا السواد قطّ عاريا عن الجسم بل يجوز رؤيته لأن المرئيات إنما هي الأجسام الملونة ولا تدرك الألوان خالية من الأجسام ، ولا الأجسام غير ملونة ، ولم نرد بالأسود هاهنا جسما أسود بحضرتنا بل ما شوهد كذلك من الأجسام ، وكذا القول في الأبيض والأحمر وما أشبه ذلك ، ومنها : أنّا نعلم أن الذّكر في المرتبة مقدم على الأنثى ، ونحن لم نشاهد العالم خاليا من أحدهما ، ثم حدث بعده الآخر إلا ما وقفنا عليه بالخبر الصادق من سبق خلق الذكر الأنثى في خلق آدم وحواء ، وأما في غيرهما فكذلك إن علم بخبر صادق وإلا جاز تقدم كل واحد منها صاحبه ، فكذلك في الكلام والإعراب نقول : إن الإعراب في الاستحقاق داخل على الكلام لما يوجبه مرتبة كل واحد منهما في المعقول ، وإن كان لم يوجدا مفترقين ؛ ونظير ذلك أنّا نقول : إن الأسماء قبل الأفعال ، لأن الأفعال أحداث الأسماء ولم توجد الأسماء زمانا ينطق بها ثم نطق بالأفعال بعدها ، بل نطق بهما معا ، ولكلّ حقه ومرتبته ، وقد أجاز بعض الناس أن تكون العرب نطقت أولا بالكلام غير معرب ثم رأت اشتباه المعاني فأعربته ، ثم نقل معربا فتكلّم به.
المبحث الرابع : في أن الإعراب لم دخل في الكلام؟
قال الزجاجي في الكتاب المذكور (١) ، فإن قال قائل : قد ذكرت أن الإعراب داخل عقب الكلام فما الذي دعا إليه واحتيج إليه من أجله؟
__________________
(١) انظر إيضاح علل النحو (٦٩).