ويشحب لونه وتغبر رأسه ومن حوله تلاميذه ومحبوه الذين أشادوا بعلمه وعبقريته ونطقوا بشهادات تمجد خلقه وورعه وتقواه. وأعتقد أن كل ما في الأمر هو أن رجلا بهذا الورع والتقوى يمكن أن تنسج حوله الحكايات تدليلا على ذلك.
والحقيقة أننا عند ما نقرأ عن الخليل وأخباره وذكائه وعبقريته ، ونتأمل أشعاره الواردة في الكتب المختلفة ، ونماذجه التي مثّل بها في قصيدته النحوية فإننا نجد شخصا مقدما على الحياة متمتعا بلقاء الناس في حوارات علمية أو اجتماعية ؛ صاحب غزل رقيق وخيال خصب وذلك يتجلى في قوله :
ابصرتها فغضضت عنها ناظري |
|
خوف القصاص وظل قلبي يرغب |
ولعلنا فيما يلي نجد ما يفصح عن تلك الظاهرة الاجتماعية ، فهو ليس منعزلا عن المجتمع ، حابسا نفسه ، إذ تعلّم الفصاحة كان يقتضي منه في بداية حياته السفر والترحال والمشافهة والمقابلة والأخذ عن الأعراب في البادية ، وبعد ذلك عند ما صار معلما كان يلتقي بطلابه ومحبيّه من الناس ، وربما أدى اتزانه وعدم حب العبث واللهو والانخراط كثيرا في المسائل العلمية إلى القول والتأكيد على زهده الشديد ، يقول أحد المؤرخين : «وعكف على العلم يستخرج ويستنبط ويخترع فكان مضرب المثل في عزوفه عن الدنيا وعكوفه على العلم» (١).
ولعل تأكيد المؤرخين على زهده ورفضه للمال واكتفائه بالقليل كان من قبيل إيضاح أن الخليل ما كان يقف على أبواب الولاة طالبا ، أو يسعى لشهرة أو مال ولعل ما ورد في معجم الأدباء دليل على ذلك. يقول ياقوت الحموي (٢) عن الخليل : «ووجه إليه سليمان بن علي والي الأهواز لتأديب ولده ، فأخرج الخليل لرسول سليمان خبزا يابسا وقال : ما دمت أجده فلا حاجة بي إلى سليمان ، فقال الرسول : فما أبلغه عنك؟ فقال :
أبلغ سليمان أني عنه في سعة |
|
وفي غنى غير أنى لست ذا مال |
سخّى (٣) بنفسي أني لا أرى أحدا |
|
يموت هزلا ولا يبقى على حال |
__________________
(١) أعلام العرب ٦٩.
(٢) معجم الأدباء ١١ / ٧٥.
(٣) ويروى شحا ، وسخيت نفسي عن الشيء : تركته ولم تنازعني إليه.