والفقر في النفس لا في المال نعرفه |
|
ومثل ذاك الغنى في النفس لا المال |
فالرزق عن قدر لا العجز ينقصه |
|
ولا يزيدك فيه حول (١) محتال |
هذه نفس أبية زاهدة لا تطمع إلا فيما يسدّ الرمق من الحياة لا تجرى وراء الكثير الفاني. فالخليل يفعل ذلك لا يخاف أن يقطع سليمان راتبا كان له عنده. ولنكمل القصة مع صاحب كتاب إتحاف الأعيان (٢) حين يقول : «وكان سليمان رتب له راتبا فقطعه عنه فقال :
إن الذي شق فمي ضامن |
|
للرزق حتى يتوفاني |
حرمتنى مالا قليلا فما |
|
زادك في مالك حرماني |
فبلغت سليمان فأقامته وأقعدته فكتب إلى الخليل يعتذر وأضعف جائزته فقال الخليل:
وزلة يكثر الشيطان إن ذكرت |
|
منها التعجب جاءت من سليمانا |
لا تعجبن لخير زلّ عن يده |
|
فالكوكب النحس يسقي الأرض أحيانا |
فرجل مثل الخليل له راتب ، وتضاعفت جائزته أو راتبه لدى سليمان لا يمكن أن يكون بهذه الصورة العجيبة من التقشف وتشقق القدمين وشحوب الوجه وتمزق الثياب إلى حدّ تلك الصورة المريبة. وكل ما حدث أنه رجل صاحب كبرياء وكرامة أراد أن يحافظ عليها ، والصورة ـ كما قال أحد الباحثين ـ (٣) : «أن زهده وعفة نفسه وعزته واباءّه كل أولئك : حال بينه وبين الشهرة ، وقعد بصيته أن يطير حينذاك وبفضله أن ينشر ويذيع ، لأنه آثر أن يغلق عليه بابه فما تجاوزه همه عن أن يقف على باب أمير أو وال يستندي الأكف ويبذل من شممه وعزة نفسه ما يملأ جيبه بالنضار ، ويريق من ماء وجهه ما يرفع منزلته عند الناس ويخفضها عند الله ويصلح من دنياه بقدر ما يفسد من دينه»
هكذا صوّر المؤرخون الخليل وإن كنا نرى في أشعاره ما
__________________
(١) حول : احتيال محتال.
(٢) إتحاف الأعيان ١ / ٥٥.
(٣) عبد الحفيظ أبو السعود في كتابه : «الخليل بن أحمد» ص ٤٠. ٤١.