باب فى مقاييس العربية
وهى ضربان : أحدهما معنوىّ والآخر لفظىّ. وهذان الضربان وإن عمّا وفشوا فى هذه اللغة ، فإن أقواهما وأوسعهما هو القياس المعنوىّ ؛ ألا ترى أن الأسباب المانعة من الصرف تسعة : واحد منها لفظىّ وهو شبه الفعل لفظا ، نحو أحمد ، ويرمع (١) وتنضب ، وإثمد ، وأبلم ، وبقّم (٢) ، وإستبرق ، والثمانية الباقية كلها معنويّة ؛ كالتعريف ، والوصف ، والعدل ، والتأنيث ، وغير ذلك. فهذا دليل.
ومثله اعتبارك باب الفاعل والمفعول به ، بأن تقول : رفعت هذا لأنه فاعل ، ونصبت هذا لأنه مفعول. فهذا اعتبار معنوىّ لا لفظىّ. ولأجله ما كانت العوامل اللفظية راجعة فى الحقيقة إلى أنها معنوية ؛ ألا تراك إذا قلت : ضرب سعيد جعفرا ، فإنّ (ضرب) لم تعمل فى الحقيقة شيئا ؛ وهل تحصل من قولك ضرب إلا على اللفظ بالضاد والراء والباء على صورة فعل ، فهذا هو الصوت ، والصوت مما لا يجوز أن يكون منسوبا إليه الفعل.
وإنما قال النحويّون : عامل لفظىّ ، وعامل معنوىّ ؛ ليروك أن بعض العمل يأتى مسبّبا عن لفظ يصحبه ؛ كمررت بزيد ، وليت عمرا قائم ، وبعضه يأتى عاريا من مصاحبة لفظ يتعلق به ؛ كرفع المبتدإ بالابتداء ، ورفع الفعل لوقوعه موقع الاسم ؛ هذا ظاهر الأمر ، وعليه صفحة القول. فأما فى الحقيقة ومحصول الحديث ، فالعمل من الرفع والنصب والجرّ والجزم إنما هو للمتكلّم نفسه ، لا لشيء غيره.
وإنما قالوا : لفظىّ ومعنوىّ لمّا ظهرت آثار فعل المتكلم بمضامّة اللفظ للفظ ، أو باشتمال المعنى على اللفظ. وهذا واضح.
واعلم أن القياس اللفظىّ إذا تأمّلته لم تجده عاريا من اشتمال المعنى عليه ؛ ألا ترى أنك إذا سئلت عن «إن» من قوله :
__________________
(١) اليرمع : حجارة رخوة.
(٢) تنضب ، وأبلم ، وبقّم : من الأشجار.