جهود ابن جنى فى الكشف عن الدلالة الفنية للأصوات (١)
(دراسة نظرية تطبيقية)
على الرغم من كون الأصوات هى اللبنات الأولى والأساس فى تشكيل البناء اللغوى ، فإنها لم تلق من الباحثين إلى الآن العناية الكافية لاستثمار طاقاتها الدّلالية ، وابتعاث إيحاءاتها الثّرّة فى فاعليتها الدائبة مع السياقات الأدبية.
ولعل ذلك يرجع ـ فى رأيى ـ إلى أمرين : صعوبة البحث فى هذا المجال الموغل فى الرمزية ، مع تأبّيه على التقعيد والتقنين ، حيث يستطيع الناظر إلى دلالات الأصوات أن يتكهّن ببعض تلك الدلالات التى يضفيها عليها السياق ، دون أن يجزم فى كثير من الأحيان أن هذه الدلالات هى فعلا دلالات تلك الأصوات ، وليست مجرد معان فرضتها الدلالة المعجمية أو الصرفية أو التركيبية ، ثم قام ذهن القارئ بتحميلها على الأصوات.
والأمر الآخر وهو تأبّى تلك الدلالات على التقعيد والتقنين يرجع إلى أنّ كثيرا من تلك الدلالات لا ترجع إلى قيمة للصوت فى ذاته بقدر ما تكون وليدة السياق وخليقته ؛ فالسياق هو الذى حمّل الصوت هذا المعنى ، وهو الذى استخدم الحرف أو الكلمة صوتا ليكسبها دلالة سياقية حينيّة مؤقتة ، وليست دلالة دائمة تستصحب فى غيره من السياقات ، فكل سياق له دلالاته التى يخلعها على أصواته ، وكل قارئ أو سامع له ذوقه الخاص فى استكناه دلالات تلك الأصوات وتأثره بها ، وإن كان هذا لا ينفى وجود حسّ أو ذوق عام يكاد يشترك فى فهم دلالات كثير من تلك الأصوات فى السياقات والمواقف المختلفة ، وإن كان ذلك يختلف ـ لا محالة ـ باختلاف البيئات اللغوية.
لعل هذه ـ فى نظرى ـ أهم أسباب ندرة البحث فى هذا المجال على مستوييه النظرى والتطبيقى.
ونستطيع أن نقول : إن هناك تفاعلا دائبا بين السياق والتشكيل الصوتى ؛ فالمبدع يختار بوعى أو بلا وعى التشكيل الصوتىّ المناسب للسياق الذى يخوض فيه ، كما أن
__________________
* نشر هذا البحث فى صحيفة دار العلوم عدد ديسمبر ١٩٩٩ م ، للدكتور عبد الحميد هنداوى بعنوان : الدلالة الفنية للأصوات (دراسة نظرية تطبيقية).