باب ذكر الفرق بين العلة الموجبة وبين العلة المجوزة
اعلم أن أكثر العلل عندنا مبناها على الإيجاب بها ؛ كنصب الفضلة ، أو ما شابه فى اللفظ الفضلة ، ورفع المبتدأ ، والخبر ، والفاعل ، وجرّ المضاف إليه ، وغير ذلك. فعلل هذه الداعية إليها موجبة لها ، غير مقتصر بها على تجويزها ؛ وعلى هذا مقاد كلام العرب.
وضرب آخر يسمّى علّة ، وإنما هو فى الحقيقة سبب يجوّز ولا يوجب.
من ذلك الأسباب الستّة الداعية إلى الإمالة ، هى علّة الجواز ، لا علّة الوجوب ؛ ألا ترى أنه ليس فى الدنيا أمر يوجب الإمالة لا بدّ منها ، وأن كلّ ممال لعلّة من تلك الأسباب الستّة لك أن تترك إمالته مع وجودها فيه. فهذه إذا علّة الجواز لا علة الوجوب.
ومن ذلك أن يقال لك : ما علة قلب واو «أقّتت» همزة؟ فتقول : علّة ذلك أن الواو انضمّت ضمّا لازما. وأنت مع هذا تجيز ظهورها واوا غير مبدلة ، فتقول : وقّتت. فهذه علّة الجواز إذا ، لا علّة الوجوب. وهذا وإن كان فى ظاهر ما تراه فإنه معنى صحيح ؛ وذلك أن الجواز معنى تعقله النفس ؛ كما أن الوجوب كذلك ؛ فكما أن هنا علّة للوجوب فكذلك هنا علّة للجواز. هذا أمر لا ينكر ، ومعنى مفهوم لا يتدافع.
ومن علل الجواز أن تقع النكرة بعد المعرفة التى يتم الكلام بها ، وتلك النكرة هى المعرفة فى المعنى ، فتكون حينئذ مخيّرا فى جعلك تلك النكرة ـ إن شئت ـ حالا ، وـ إن شئت ـ بدلا ؛ فتقول على هذا : مررت بزيد رجل صالح ، على البدل ، وإن شئت قلت : مررت بزيد رجلا صالحا ، على الحال. أفلا ترى كيف كان وقوع النكرة عقيب المعرفة على هذا الوصف علّة لجواز كلّ واحد من الأمرين ، لا علّة لوجوبه.
وكذلك كلّ ما جاز لك فيه من المسائل الجوابان ، والثلاثة ، وأكثر من ذلك على هذا الحدّ ، فوقوعه عليه علّة لجواز ما جاز منه ، لا علّة لوجوبه. فلا تستنكر