باب فى تعارض العلل
الكلام فى هذا المعنى من موضعين : أحدهما الحكم الواحد تتجاذب كونه العلّتان أو أكثر منهما. والآخر الحكمان فى الشىء الواحد المختلفان ، دعت إليهما علّتان مختلفتان.
الأوّل منهما كرفع المبتدأ ؛ فإننا نحن نعتلّ لرفعه بالابتداء ، على ما قد بينّاه وأوضحناه من شرحه وتلخيص معناه. والكوفيّون يرفعونه إما بالجزء الثانى الذى هو مرافعه عندهم ، وإمّا بما يعود عليه من ذكره على حسب مواقعه. وكذلك رفع الخبر ورفع الفاعل ، ورفع ما أقيم مقامه ، ورفع خبر إنّ وأخواتها. وكذلك نصب ما انتصب ، وجرّ ما انجرّ ، وجزم ما انجزم ، مما يتجاذب الخلاف فى علله. فكلّ واحد من هذه الأشياء له حكم واحد تتنازعه العلل ، على ما هو مشروح من حاله فى أماكنه. وإنما غرضنا أن نرى هنا جمله ، لا أن نشرحه ، ولا أن نتكلم على تقوية ما قوى منه ، وإضعاف ما ضعف منه.
الثانى منهما الحكمان فى الشىء الواحد المختلفان دعت إليهما علّتان مختلفتان ؛ وذلك كإعمال أهل الحجاز ما النافية للحال ، وترك بنى تميم إعمالها ، وإجرائهم إيّاها مجرى (هل) ونحوها ممّا لا يعمل ؛ فكأنّ أهل الحجاز لمّا رأوها داخلة على المبتدأ والخبر دخول ليس عليهما ، ونافية للحال نفيها إيّاها ، أجروها فى الرفع والنصب مجراها إذا اجتمع فيها الشبهان بها. وكأنّ بنى تميم لمّا رأوها حرفا داخلا بمعناه على الجملة المستقلّة بنفسها ، ومباشرة لكلّ واحد من جزأيها ؛ كقولك : ما زيد أخوك ، وما قام زيد ، أجروها مجرى (هل) ؛ ألا تراها داخلة على الجملة لمعنى النفى دخول (هل) عليها للاستفهام ؛ ولذلك كانت عند سيبويه (١) لغة التميميين أقوى قياسا من لغة الحجازيّين.
ومن ذلك (ليتما) ؛ ألا ترى أن بعضهم يركّبهما جميعا ، فيسلب بذلك (ليت)
__________________
(١) فى الكتاب ١ / ٥٧ يقول : ذلك الحرف «ما». «وأما بنو تميم فيجرونها مجرى أمّا وهل. وهو القياس ، لأنه ليس بفعل وليس ما كليس ولا يكون فيها إضمار».