أخذ يعلل أو يبين وجه التناسب بين تلك الأصوات وتلك المعانى ، وقد علّل لمناسبة تلك المصادر لمعانيها تعليلا جيّدا بقوله : «فقابلوا بتوالى حركات المثال (أى الصيغة) أو البنية توالى حركات الأفعال» (١).
وقد اتجه البحث فى دلالة الأصوات عند ابن جنى إلى جهتين متكاملتين :
الأولى : [النظر إلى صفة الحرف ومخرجه] وحاله من حيث التفخيم والترقيق ، والشدّة والرخاوة والجهر والهمس والإطباق والانفتاح والاستعلاء والاستطالة والتفشى وغير ذلك ، ثمّ بحث العلاقة بين هذه الأحوال والصفات وبين الدلالة الوضعية للكلمة.
الثانية : النظر إلى دلالة الكلمة باعتبارها تركيبا صوتيا له بنية وهيئة بعينها ، بحيث يبحث العلاقة بين طريقة تركيب أحرف تلك الكلمة ، ومناسبة ذلك التركيب وتلك الهيئة للمعنى الذى وضعت له الكلمة.
وقد اهتم ابن جنّى (ت ٣٩٢ ه) بدراسة الدلالة الصوتية على هذين المستويين فى «باب فى إمساس الألفاظ أشباه المعانى» حيث يقول : «فأما مقابلة الألفاظ بما يشاكل أصواتها من الأحداث فباب عظيم واسع ، ونهج متلئب (أى : ثابت) عند عارفيه مأموم ، وذلك أنهم كثيرا ما يجعلون أصوات الحروف على سمت الأحداث المعبّر بها عنها ، فيعدلونها ويحتذونها عليها ، وذلك أكثر مما نقدّره وأضعاف ما نستشعره» (٢).
وهو يشير إلى كثرة هذا النوع من دلالة الأصوات على المعانى فى اللغة ، ثم يعرض أمثلة له ، فمما مثّل به للنوع الأول : تفريقهم بين الخضم والقضم والنّضح والنّضخ ، يقول : من ذلك قولهم : «خضم وقضم ، فالخضم لأكل الرّطب ، كالبطيخ والقثّاء ، وما كان نحوهما من المأكول الرطب. والقضم للصلب اليابس ، نحو قضمت الدابة شعيرها ، ونحو ذلك ، وفى الخبر «قد يدرك الخضم بالقضم» أى قد يدرك الرخاء بالشدة ، واللين بالشظف. وعليه قول أبى الدرداء : «يخضمون ونقضم والموعد الله» (٣).
ويوضح سرّ اختلاف الدلالة بين صوتى الخاء والقاف ، ويجعل ذلك راجعا إلى
__________________
(١) الخصائص ٢ / ١٥٢.
(٢) الخصائص ج ٢ ، ص ١٥٧.
(٣) السابق والصفحة نفسها.