كثرت حروف المدّ قبل حرف الروىّ ـ كالتأسيس والرّدف ـ ليكون ذلك مؤذنا بالوقوف ، ومؤدّيا إلى الراحة والسكون. وكلّما جاور حرف المدّ الروىّ كان آنس به ، وأشدّ إنعاما لمستمعه. نعم وقد نجد حرف اللين فى القافية عوضا عن حرف متحرّك ، أوزنة حرف متحرّك حذف من آخر البيت فى أتمّ أبيات ذلك البحر ؛ كثالث الطويل ، وثانى البسيط والكامل. فلذلك كان موضع حرف اللين إنما هو لما جاور الطرف. فأمّا ألف فاعل وفاعال وفاعول ونحو ذلك فإنها وإن كانت راسخة فى اللّين ، وعريقة فى المدّ ، فليس ذلك لاعتزامهم المدّ بها ، بل المدّ فيها ـ أين وقعت ـ شيء يرجع إليها فى ذوقها ، وحسن النطق بها ؛ ألا تراها دخولها فى (فاعل) لتجعل الفعل من اثنين فصاعدا ؛ نحو ضارب وشاتم ؛ فهذا معنى غير معنى المدّ ، وحديث غير حديثه. وقد ذكرت هذا الموضع فى كتابى فى شرح تصريف أبى عثمان وغيره من كتبى ، وما خرج من كلامى.
فإن قلت : فإذا كان الأمر كذا فهلا زيدت المدّات فى أواخر الكلم للمدّ ، فإن ذلك أنأى لهنّ ، وأشدّ تماديا بهنّ؟ قيل : يفسد ذاك من حيث كان مؤدّيا إلى نقض الغرض ، وذلك أنهنّ لو تطرفن لتسلّط الحذف عليهنّ ، فكان يكون ما أرادوه من زيادة الصوت بهنّ داعيا إلى استهلاكه بحذفهنّ ؛ ألا ترى أن ما جاء فى آخره الياء والواو قد حفظن عليه ، وارتبطن له بما زيد عليهن من التاء من بعدهن ؛ وذلك كعفرية ، وحدرية (١) ، وعفارية ، وقراسية (٢) ، وعلانية ، ورفاهية ، وبلهنية (٣) ، وسحفنية (٤) ؛ وكذلك عرقوة ، وترقوة ، وقلنسوة ، وقمحدوة (٥). فأما رباع وثمان وشناح (٦) فإنما احتمل ذلك فيه للفرق بين المذكّر والمؤنّث فى رباعية وثمانية وشناحية. وأيضا فلو زادوا الواو طرفا لوجب قلبها ياء ؛ ألا تراها لمّا حذفت التاء عنها فى الجمع قلبوها ياء ؛ قال :
__________________
(١) الحذرية : الأرض الخشنة ، والجمع الحذارى. اللسان (حذر).
(٢) القراسية : الضخم الشديد من الإبل وغيرها ، اللسان (قرس).
(٣) البلهنية : سعة العيش. اللسان (بلهن).
(٤) رجل سحفنية : هو المحلوق الرأس. اللسان (سحف).
(٥) القمحدوة : الهنة الناشزة فوق القفا. اللسان (قمحد).
(٦) الشّناح من الإبل : الطويل الجسيم. والأنثى شناحية. اللسان (شنح).