باب فى أن العرب قد أرادت من العلل والأغراض
ما نسبناه إليها ، وحملناه عليها
اعلم أن هذا موضع فى تثبيته وتمكينه منفعة ظاهرة ، وللنفس به مسكة وعصمة ؛ لأن فيه تصحيح ما ندّعيه على العرب : من أنّها أرادت كذا لكذا ، وفعلت كذا لكذا. وهو أحزم لها ، وأجمل بها ، وأدلّ على الحكمة المنسوبة إليها ، من أن تكون تكلفت ما تكلّفته : من استمرارها على ووتيرة واحدة ، وتقرّيها منهجا واحدا ، تراعيه وتلاحظه ، وتتحمّل لذلك مشاقّه وكلفه ، وتعتذر من تقصير إن جرى وقتا منها فى شيء منه.
وليس يجوز أن يكون ذلك كلّه فى كل لغة لهم ، وعند كلّ قوم منهم ، حتى لا يختلف ولا ينتقض ، ولا يتهاجر ، على كثرتهم ، وسعة بلادهم ، وطول عهد زمان هذه اللغة لهم ، وتصرّفها على ألسنتهم ، اتّفاقا وقع ، حتى لم يختلف فيه اثنان ، ولا تنازعه فريقان ، إلا وهم له مريدون ، وبسيافه على أوضاعهم فيه معنيّون ؛ ألا ترى إلى اطّراد رفع الفاعل ، ونصب المفعول ، والجرّ بحروف الجرّ ، والنصب بحروفه ، والجزم بحروفه ، وغير ذلك من حديث التثنية والجمع ، والإضافة والنسب ، والتحقير ، وما يطول شرحه ؛ فهل يحسن بذى لبّ أن يعتقد أنّ هذا كله اتّفاق وقع ، وتوارد اتّجه!.
فإن قلت ؛ (فما تنكر) أن يكون ذلك شيئا طبعوا عليه ، وأجيئوا إليه ، من غير اعتقاد منهم لعلله ، ولا لقصد من القصود التى تنسبها إليهم فى قوانينه وأغراضه ، بل لأن آخرا منهم حذا على ما نهج الأوّل فقال به ، وقام الأوّل للثانى فى كونه إماما له فيه مقام من هدى الأوّل إليه ، وبعثه عليه ، ملكا كان أو خاطرا؟
قيل : لن يخلو ذلك أن يكون خبرا روسلوا به ، أو تيقّظا نبّهوا على وجه الحكمة فيه. فإن كان وحيا أو ما يجرى مجراه فهو أنبه له ، وأذهب فى شرف الحال به ؛ لأن الله سبحانه إنما هداهم لذلك ووقفهم عليه ؛ لأن فى طباعهم قبولا له ، وانطواء على صحّة الوضع فيه ؛ لأنهم مع ما قدّمناه من ذكر كونهم عليه فى