وفيها :
فى باذخات من عماية أو |
|
يرفعه دون السماء خيم (١) |
والأمر فى كثرة تقديم المفعول على الفاعل فى القرآن وفصيح الكلام متعالم غير مستنكر ، فلمّا كثر وشاع تقديم المفعول [على الفاعل] كان الموضع له ، حتى إنه إذا أخّر فموضعه التقديم ، فعلى ذلك كأنه قال : جزى عدىّ بن حاتم ربّه ، ثم قدّم الفاعل على أنه قد قدّره مقدّما عليه مفعوله فجاز ذلك ، ولا تستنكر هذا الذى صوّرته لك ولا يجف عليك ؛ فإنه مما تقبله هذه اللغة ولا تعافه ولا تتبشّعه ؛ ألا ترى أن سيبويه أجاز فى جرّ (الوجه) من قولك : هذا الحسن الوجه أن يكون من موضعين : أحدهما بإضافة الحسن إليه ، والآخر تشبيه له بالضارب الرجل ، هذا مع أنّا قد أحطنا علما بأن الجرّ فى (الرجل) من قولك : هذا الضارب الرجل إنما جاءه وأتاه من جهة تشبيههم إيّاه بالحسن الوجه ، لكن لما اطّرد الجرّ فى نحو هذا الضارب الرجل ، والشاتم الغلام ، صار كأنه أصل فى بابه ، حتى دعا ذاك سيبويه إلى أن عاد (فشبه الحسن الوجه) بالضارب الرجل ، [من الجهة التى إنما صحّت للضارب الرجل تشبيه بالحسن الوجه] وهذا يدلّك على تمكّن الفروع عندهم ، حتى إن أصولها التى أعطتها حكما من أحكامها قد حارت فاستعادت من فروعها ما كانت هى أدّته إليها ، وجعلته عطيّة منها لها ، فكذلك أيضا يصير تقديم المفعول لمّا استمرّ وكثر كأنه هو الأصل ، وتأخير الفاعل كأنه أيضا هو الأصل.
فإن قلت ، إنّ هذا ليس مرفوعا إلى العرب ولا محكيّا عنها أنها رأته مذهبا ، وإنما هو شيء رآه سيبويه واعتقده قولا ، ولسنا نقلّد سيبويه ولا غيره فى هذه العلّة ولا غيرها ، فإن الجواب عن هذا حاضر عتيد ، والخطب فيه أيسر ، وسنذكره فى باب يلى هذا بإذن الله. ويؤكّد أن الهاء فى (ربه) لعدىّ بن حاتم من جهة المعنى عادة العرب فى الدعاء ؛ ألا تراك لا تكاد تقول : جزى ربّ زيد عمرا ، وإنما يقال : جزاك ربّك خيرا أو شرا. وذلك أوفق ؛ لأنه إذا كان مجازيه ربّه كان أقدر على جزائه وأملأ به. ولذلك جرى العرف بذلك فاعرفه.
__________________
(١) عماية : جبل من جبال هذيل. خيم : جبل. اللسان (عمى) ، (خيم).