باب فى هل يجوز لنا فى الشعر
من الضرورة ما جاز للعرب أو لا؟
سألت أبا علىّ رحمهالله عن هذا فقال : كما جاز أن نفيس منثورنا على منثورهم ، فكذلك يجوز لنا أن نقيس شعرنا على شعرهم. فما أجازته الضرورة لهم أجازته لنا ، وما حظرته عليهم حظرته علينا.
وإذا كان كذلك فما كان من أحسن ضروراتهم ، فليكن من أحسن ضروراتنا ، وما كان من أقبحها عندهم فليكن من أقبحها عندنا. وما بين ذلك بين ذلك.
فإن قيل : هلا لم يجز لنا متابعتهم على الضرورة ، من حيث كان القوم لا يترسّلون فى عمل أشعارهم ترسّل المولّدين ، ولا يتأنّون فيه ، ولا يتلوّمون (١) على حوكه (وعمله) ، وإنما كان أكثره ارتجالا ، قصيدا كان ، أو رجزا ، أو رملا.
فضرورتهم إذا أقوى من ضرورة المحدثين. فعلى هذا ينبغى أن يكون عذرهم فيه أوسع ، وعذر المولّدين أضيق.
قيل : يسقط هذا من أوجه : أحدها أنه ليس جميع الشعر القديم مرتجلا ، بل قد كان يعرض لهم فيه من الصبر عليه ، والملاطفة له ، والتلوّم على رياضته ، وإحكام صنعته نحو مما يعرض لكثير من المولّدين. ألا ترى إلى ما يروى عن زهير : من أنه عمل سبع قصائد فى سبع سنين ، فكانت تسمّى حوليات زهير ؛ لأنه كان يحوك القصيدة فى سنة. والحكاية فى ذلك عن ابن أبى حفصة أنه قال : كنت أعمل القصيدة فى أربعة أشهر ، وأحكّكها فى أربعة أشهر ، وأعرضها فى أربعة أشهر ، ثم أخرج بها إلى الناس. فقيل له : فهذا هو الحولى المنقّح. وكذلك الحكائد عن ذى الرمّة : أنه قال : لمّا قال :
* بيضاء فى نعج صفراء فى برج (٢) *
__________________
(١) تلوّم فى الأمر : تمكّث وانتظر. ولي فيه لومة ، أى تلوّم. والتلوّم : الانتظار والتلبث. وانظر اللسان (لوم).
(٢) صدر بيت لذى الرمة فى ديوانه ص ٣٣ ، وجمهرة اللغة ص ١٣٣١ ، وجمهرة أشعار العرب