(باب فيما يرد) عن العربى مخالفا لما عليه الجمهور
إذا اتّفق شيء من ذلك نظر فى حال ذلك العربىّ وفيما جاء به. فإن كان الإنسان فصيحا فى جميع ما عدا ذلك القدر الذى انفرد به ، وكان ما أورده ممّا يقبله القياس ، إلا أنه لم يرد به استعمال إلا من جهة ذلك الإنسان ، فإنّ الأولى فى ذلك أن يحسن الظنّ به ، ولا يحمل على فساده.
فإن قيل : فمن أين ذلك له ، وليس مسوّغا أن يرتجل لغة لنفسه؟
قيل : قد يمكن أن يكون ذلك وقع إليه من لغة قديمة قد طال عهدها ، وعفا رسمها ، وتأبّدت (١) معالمها. أخبرنا أبو بكر جعفر بن محمد بن الحجّاج عن أبى خليفة الفضل بن الحباب قال : قال ابن عون عن ابن سيرين ، قال عمر بن الخطاب رضى الله تعالى عنه : كان الشعر علم القوم ، ولم يكن لهم علم أصحّ منه ، فجاء الإسلام فتشاغلت عنه العرب بالجهاد وغزو فارس والروم ، ولهيت عن الشعر وروايته ، فلمّا كثر الإسلام وجاءت الفتوح واطمأنّت العرب فى الأمصار ، راجعوا رواية الشعر ، فلم يئولوا إلى ديوان مدوّن ، ولا كتاب مكتوب ، وألفوا ذلك وقد هلك من العرب من هلك بالموت والقتل ، فحفظوا أقلّ ذلك ، وذهب عنهم كثيره.
وحدّثنا أبو بكر أيضا عن أبى خليفة قال : قال يونس بن حبيب : قال أبو عمرو بن العلاء : ما انتهى إليكم مما قالت العرب إلا أقلّه ، ولو جاءكم وافرا لجاءكم علم وشعر كثير. فهذا ما تراه ، وقد روى فى معناه كثير.
وبعد فلسنا نشكّ فى بعد لغة حمير ونحوها عن لغة ابنى نزار ؛ فقد يمكن أن يقع شيء من تلك اللغة فى لغتهم فيساء الظنّ فيه بمن سمع منه ، وإنما هو منقول من تلك اللغة.
ودخلت يوما على أبى علىّ ـ رحمهالله ـ خاليا فى آخر النهار ، فحين رآنى قال
__________________
(١) تأبد المنزل : أقفر وألفته الوحوش.