باب فى ترك الأخذ عن أهل المدر
كما أخذ عن أهل الوبر
علّة امتناع ذلك ما عرض للغات الحاضرة وأهل المدر من الاختلال والفساد والخطل. ولو علم أن أهل مدينة باقون على فصاحتهم ، ولم يعترض شيء من الفساد للغتهم ، لوجب الأخذ عنهم كما يؤخذ عن أهل الوبر.
وكذلك أيضا لو فشا فى أهل الوبر ما شاع فى لغة أهل المدر من اضطراب الألسنة وخبالها ، وانتقاض عادة الفصاحة وانتشارها ، لوجب رفض لغتها ، وترك تلقّى ما يرد عنها. وعلى ذلك العمل فى وقتنا هذا ؛ لأنا لا نكاد نرى بدويّا فصيحا. وإن نحن آنسنا منه فصاحة فى كلامه ، لم نكد نعدم ما يفسد ذلك ويقدح فيه ، وينال ويغضّ منه.
وقد كان طرأ علينا أحد من يدّعى الفصاحة البدوية ، ويتباعد عن الضعفة الحضرية ، فتلقينا أكثر كلامه بالقبول له ، وميزناه تمييزا حسن فى النفوس موقعه ، إلى أن أنشدنى يوما شعرا لنفسه يقول فى بعض قوافيه : أشأؤها (١) ، وأدأؤها (٢) [بوزن أشععها وأدععها] فجمع بين الهمزتين كما ترى ، واستأنف من ذلك ما لا أصل له ، ولا قياس يسوّغه. نعم ، وأبدل إلى الهمز حرفا لا حظّ فى الهمز له ، بضدّ ما يجب ؛ لأنه لو التقت همزتان عن وجوب صنعة للزم تغيير إحداهما (٣) ، فكيف أن يقلب إلى الهمز قلبا ساذجا عن غير صنعة ما لا حظّ له فى الهمز ، ثم يحقّق الهمزتين جميعا! هذا ما لا يبيحه قياس ، ولا ورد بمثله سماع.
فإن قلت : فقد جاء عنهم خطائئ ، ورزائئ ، ودريئة ودرائئ ، ولفيئة ولفائئ ،
__________________
(١) قال فى اللسان (شأى) : شأوت القوم شأوا : سبقتهم. وشأيت القوم شأيا : سبقتهم.
(٢) دأى له يدأى دأيا ودأوا : إذا ختله. أى خدعه. انظر اللسان (دأى). وفى بعض النسخ : «أذأؤها» بالذال ، قال فى اللسان (ذأى) : ذأى يذأى ويذءو ذأوا : مرّ مرا خفيفا سريعا .. وذأى الإبل يذآها ويذءوها ذأوا وذأيا : ساقها سوقا شديدا وطردها.
(٣) ولذا عقد الصرفيون بابا عن الإبدال ذكروا فيه ما يصنع عند التقاء الهمزتين فى كلمة واحدة. انظر شذا العرف بتحقيقى ط دار الكتب العلمية.