فكأنهم جاءوا إلى واحد من بنى آدم ، فأومئوا إليه ، وقالوا : إنسان إنسان إنسان فأىّ وقت سمع هذا اللفظ علم أن المراد به هذا الضرب من المخلوق ، وإن أرادوا سمة عينه أو يده أشاروا إلى ذلك ، فقالوا : يد ، عين ، رأس ، قدم ، أو نحو ذلك. فمتى سمعت اللفظة من هذا عرف معنيّها ، وهلم جرّا فيما سوى هذا من الأسماء ، والأفعال ، والحروف. ثم لك من بعد ذلك أن تنقل هذه المواضعة إلى غيرها ، فتقول : الذى اسمه إنسان فليجعل مكانه مرد (١) ، والذى اسمه رأس فليجعل مكانه سر ؛ وعلى هذا بقيّة الكلام. وكذلك لو بدأت اللغة الفارسية ، فوقعت المواضعة عليها ، لجاز أن تنقل ويولّد منها لغات كثيرة : من الرومية ، والزنجية ، وغيرهما. وعلى هذا ما نشاهده الآن من اختراعات الصّنّاع لآلات صنائعهم من الأسماء : كالنجّار ، والصائغ والحائك ، والبناء ، وكذلك الملاح.
قالوا : ولكن لا بدّ لأوّلها من أن يكون متواضعا بالمشاهدة والإيماء. قالوا : والقديم سبحانه لا يجوز أن يوصف بأن يواضع أحدا من عباده على شيء ؛ إذ قد ثبت أن المواضعة لا بدّ معها من إيماء وإشارة بالجارحة نحو المومأ إليه ، والمشار نحوه ، والقديم سبحانه لا جارحة له ، فيصحّ الإيماء والإشارة بها منه ؛ فبطل عندهم أن تصح المواضعة على اللغة منه ، تقدّست أسماؤه ؛ قالوا : ولكن يجوز أن ينقل الله اللغة التى قد وقع التواضع بين عباده عليها ، بأن يقول : الذى كنتم تعبّرون عنه بكذا عبّروا عنه بكذا ، والذى (كنتم تسمّونه) كذا ينبغى أن تسمّوه كذا ؛ وجواز هذا منه ـ سبحانه ـ كجوازه من عباده. ومن هذا الذى فى الأصوات ما يتعاطاه الناس الآن من مخالفة الأشكال ، فى حروف المعجم ؛ كالصورة التى توضع للمعمّيات (٢) ، والتراجم (٣) ؛ وعلى ذلك أيضا اختلفت أقلام ذوى اللغات ؛ كما
__________________
(١) مرد : هو الإنسان أو الرجل فى الفارسية ، وسر : الرأس فى الفارسية كذلك.
(٢) يريد بالمعميات ما عمى وألغز فى الرسم والكتابة. وذلك ما يكتب بصورة مصطلح عليها غير الاصطلاح المألوف. ومن أمثلة ذلك أن يكتب الكاف بدل الميم ، والطاء بدل الحاء ، والراء بدل الدال ، فيكتب محمد : كطكر. وهو ما يعرف فى اصطلاح العصر بالشفرة.
(٣) والتراجم جمع الترجمة وهو المعمى نفسه ، ويقال له المترجم ؛ كأنه سمى بذلك لما أنه يحتاج إلى الترجمة والكشف عنه. وقد كان المتقدمون يعرفون هذا ، وعقد له فى صبح الأعشى بابا طويلا ـ ص ٢٣١ ج ٩ ـ ، وذكر أن لابن الدريهم كتابا فيه. وقد نقل عنه قدرا صالحا فى هذا العلم. وانظر فى فن المعمى بوجه عام الخزانة ١١٣ / ٣.