اختلف أنفس الأصوات المرتبة على مذاهبهم فى المواضعات. وهذا قول من الظهور على ما تراه. إلا أننى سألت يوما بعض أهله (١) ، فقلت : ما تنكر أن تصحّ المواضعة من الله تعالى؟ وإن لم يكن ذا جارحة ، بأن يحدث فى جسم من الأجسام ، خشبة أو غيرها ، إقبالا على شخص من الأشخاص ، وتحريكا لها نحوه ، ويسمع فى نفس تحريك الخشبة نحو ذلك الشخص صوتا يضعه اسما (٢) له ، ويعيد حركة تلك الخشبة نحو ذلك الشخص دفعات ، مع أنه ـ عزّ اسمه ـ قادر على أن يقنع فى تعريفه ذلك بالمرة الواحدة ، فتقوم الخشبة فى هذا الإيماء ، وهذه الإشارة ، مقام جارحة ابن آدم فى الإشارة بها فى المواضعة ؛ وكما أن الإنسان أيضا قد يجوز إذا أراد المواضعة أن يشير بخشبة نحو المراد المتواضع عليه ، فيقيمها فى ذلك مقام يده ، لو أراد الإيماء بها نحوه؟ فلم يجب عن هذا بأكثر من الاعتراف بوجوبه ، ولم يخرج من جهته شيء أصلا فأحكيه عنه ؛ وهو عندى (٣) وعلى ما تراه الآن لازم لمن قال بامتناع مواضعة القديم تعالى لغة مرتجلة (٤) غير ناقلة لسانا إلى لسان. فاعرف ذلك.
وذهب بعضهم إلى أنّ أصل اللغات كلها إنما هو من الأصوات المسموعات ، كدوىّ الريح ، وحنين الرعد ، وخرير الماء ، وشحيج الحمار ، ونعيق الغراب ،
__________________
ـ وفى نقد النثر ٢٦ : «ومن الظن العيافة والقيافة والزجر والكهانة واستخراج المعمى والمترجم من الكتب». وفيه فى ص ٢٨ : «ألا ترى أنك تظنّ بالترجمة أنها حروف ما ، فإذا أدرتها فى سائر المواضع التى تثبت صورها فيها وامتحنتها فوجدتها مصدّقة لظنك حكمت بصحتها ، وإذا خالفت علمت أن ظنك لم يقع موقعه ، فأوقعته على غير تلك الحروف إلى أن تصح لك». (نجار).
(١) هم المعتزلة. انظر المزهر ص ١٢ ج ١ ، وينسب هذا المذهب إلى أبى هاشم الجبائى عبد السلام بن محمد من رءوس المعتزلة. وكانت وفاته سنة ٣٢١. وانظر المزهر ١٠ / ١.
(٢) أى الشخص المراد وضع الاسم له. والشخص : سواد الإنسان وغيره ، والذى يفهم التسمية بالضرورة غير الشخص المسمى.
(٣) العبارة فى المزهر : «وهذا عندى على ما تراه الآن لازم».
(٤) قيد بهذا لأن هذا موضع المنع عند القائلين به ، فهم إنما ينكرون أن يواضع البارئ لغة مرتجلة ، فأما أن يواضع لغة ثابتة من قبل بأن ينقلها إلى لغة أخرى فيقول : ما تعبرون عنه بكذا عبروا بكذا فلا شيء فيه كما سبق له. (نجار).