المجيء وقت الإحسان ، لأنّ (إذا) ظرف ، والعامل فيه «أحسنت» ، فيصير التقدير : أحسنت إليه وقت مجيئه ، وليس الأمر كذلك ، وسبب ذلك أنّه لمّا تقارب الزمانان وتجاور الحالان صارا كأنّهما وقعا في زمان واحد ، وإن كان لا بدّ أن يقدّر أنّ زمان الإحسان بعد زمان المجيء ، إذ الإحسان مسبّب عن المجيء ، والسبب يتقدّم المسبّب ، ويكون تقدير الآية على هذا : أيعدكم أنّكم مخرجون آخر وقت موتكم وكونكم ترابا وعظاما ، ثم قلت بعد هذا : «وأمّا فائدة تكرير أنّ فإنّ العرب تكرّر الشيء في الاستفهام استبعادا ، كما يقول الرجل لمخاطبه إذا كان يستبعد منه أن يجاهد : أنت تجاهد ، أنت تجاهد» ، وهذا قول غير محقّق ولا محرّر ، وهذه العبارة بتكرير الاستبعاد شيء خارج عن المألوف المعتاد ، وإنما التكرير في كلام العرب لمعنى التأكيد ، على ذلك جاء في كتاب الله عزّ وجلّ وفي الكلام الفصيح ، كقوله تعالى : (إِذا دُكَّتِ الْأَرْضُ دَكًّا دَكًّا) [الفجر : ٢١] ، فكرر دكّا على جهة التأكيد بدلالة قوله تعالى في الأخرى : (فَدُكَّتا دَكَّةً واحِدَةً) [الحاقة : ١٤] ، وقوله تعالى : (فَإِنَّ مَعَ الْعُسْرِ يُسْراً إِنَّ مَعَ الْعُسْرِ يُسْراً) [الشرح : ٥ ـ ٦] ، وقوله تعالى : (إِنِّي رَأَيْتُ أَحَدَ عَشَرَ كَوْكَباً وَالشَّمْسَ وَالْقَمَرَ رَأَيْتُهُمْ لِي ساجِدِينَ) [يوسف : ٤] ، كرر «رأيتهم» توكيدا ، وقوله تعالى : (لا تَحْسَبَنَّ الَّذِينَ يَفْرَحُونَ بِما أَتَوْا وَيُحِبُّونَ أَنْ يُحْمَدُوا بِما لَمْ يَفْعَلُوا فَلا تَحْسَبَنَّهُمْ بِمَفازَةٍ مِنَ الْعَذابِ) [آل عمران : ١٨٨] ، وليس في شيء من ذلك استبعادا.
المسألة الثانية : قال أبو نزار : روي عن النبي صلّى الله عليه وسلّم أنه قال : «من جمع مالا من نهاوش أذهبه الله في نهابر» (١) ، يسأل عن مادة هاتين الكلمتين وزيادتهما ومكان استعمالهما.
فأوّل ذلك أن تعلم أن نهوشا واحد قدّر أنّه جمع على نهاوش ، وهو من الهوش بمعنى الاختلاط ، قال : وكذلك نهابر هو جمع واحد نهبره وهو من الهبر بمعنى القطع المتدارك ، والمعنى من جمع مالا من جهات مختلطة لا يعلم جهات حلّها وحرمتها قطعه الله عليه ، قال : فإن قيل : ما سمعنا في الواحد نهبرا ونهوشا قلنا : قد نصّ سيبويه على أنّ العرب تأتي بمجموع لم تنطق بواحدها ، ثم قال : إنّ قياس واحد ملامح ومحاسن ملمحة ومحسنة ، وما سمعنا بملمحة ، وكذلك قدّروا أنّ واحد أباطيل إبطيل أو أبطول ، وأباطيل جمع لم ينطق بواحده.
__________________
(١) الحديث في مسند الشهاب (١ / ٢٧١ ، ٢٧٢) ، وأمثال الحديث (١ / ١٦٢) ، وميزان الاعتدال (٥ / ٣٠٧) ، وكشف الخفاء (٢ / ٢٩٥) ، وفيض القدير (٦ / ٦٥).