القاعدة الأولى : أنّ القضية السالبة لا تستلزم وجود الموضوع ، بل كما تصدق مع وجوده تصدق مع عدمه ، فإذا قيل : ما جاءني قاضي مكة ولا ابن الخليفة ، صدقت القضية ، وإن لم يكن بمكة قاض ولا للخليفة ابن ، وهذه القاعدة هي التي يتخرج عليها (فَما تَنْفَعُهُمْ شَفاعَةُ الشَّافِعِينَ) وبيت امرئ القيس ، فإنّ شفاعة الشافعين بالنسبة إلى الكافرين غير موجودة يوم القيامة ، لأنّ الله تعالى لا يأذن لأحد في أن يشفع لهم ، لأنّه لا يأذن فيما لا ينتفع لتعاليه عن العبث ، ولا يشفع أحد عند الله إذا لم يأذن الله له : (مَنْ ذَا الَّذِي يَشْفَعُ عِنْدَهُ إِلَّا بِإِذْنِهِ) [البقرة : ٢٥٥] ، وكذلك المنار غير موجود في الّلاحب المذكور ، لأنّ المراد التمدّح بأنّه يقطع الأرض المجهولة من غيرها ويهتدي به ، فغرضه إنّما تعلّق بنفي وجود ما يهتدي به في تلك الطريق التي سلكها لا بنفي وجود الهداية عن شيء نصب فيها للاهتداء به ، وأمّا قول أبي حيان وغيره : المراد لا شافع لهم فتنفعهم شفاعته ولا منار فيهتدى به فليس بشيء ، لأنّ النفي إنما يتسلّط على المسند لا على المسند إليه ، ولكنّهم لمّا رأوا الشفاعة والمنار غير موجودين توهّموا أنّ ذلك من اللفظ فزعموا ما زعموا ، وفرق بين قولنا : الكلام صادق مع عدم المسند إليه وقولنا : إنّ الكلام اقتضى عدمه.
القاعدة الثانية : أنّ القضية السالبة المشتملة على مقيّد نحو : ما جاءني رجل شاعر ، تحتمل وجهين :
الأول : أن يكون نفي المسند باعتبار القيد ، فيقتضي المفهوم في المثال المذكور وجود مجيء رجل ما غير شاعر ، وهذا هو الاحتمال الراجح المتبادر ، ألا ترى أنه لو كان المراد نفيه عن الرجل مطلقا لكان ذكر الوصف ضائعا ، ولكان زيادة في اللفظ ونقضا في المعنى المراد؟.
الثاني : أن يكون نفيه باعتبار المقيّد وهو الرجل ، وهذا احتمال مرجوح لا يصار إليه إلّا بدليل ، فلا مفهوم حينئذ للقيد ، لأنّه لم يذكر للتقيد ، بل ذكر لغرض آخر ، كأن يكون المراد مناقضة من أثبت ذلك الوصف ، فقال : جاءك رجل شاعر ، فأردت التنصيص على نفي ما أثبته ، وكأن يراد التعريض كما أردت في المثال المذكور أن تعرّض بمن جاءه رجل شاعر ، وهذه هي القاعدة التي يتخرج عليها (لا يَسْئَلُونَ النَّاسَ إِلْحافاً) [البقرة : ٢٧٣] ، فإنّ الإلحاف قيد في السؤال المنفيّ ، والمراد من الآية ـ والله أعلم ـ نفي السؤال البتة بدليل : (يَحْسَبُهُمُ الْجاهِلُ أَغْنِياءَ مِنَ التَّعَفُّفِ) [البقرة : ٢٧٣] ، والتعفّف لا يجامع المسألة ، ولكن أريد بذكر الإلحاف ـ والله أعلم ـ التعريض بقوم ملحفين توبيخا لهم على صنيعهم ، والتعريض